TODAY - December 05, 2010
أسانج.. المشاغب العالمي
حياته مليئة بالأسرار ويعيش متنقلا بشكل دائم خوفا من الاعتقال أو الاغتيال


لندن: راغدة بهنام
بات يعرف بأنه مشاغب عالمي.. يفضح حكومات، ويكشف أسرار دول، من دون تردد. ولكنه هو نفسه يعيش حياة مليئة بالأسرار.. حياة أشبه بالجواسيس، لا أحد يعرف كثيرا عن ماضيه، ولا يمكن إلا لأقرب المقربين منه اليوم، وهم محاموه وليس أفراد عائلته، أن يحددوا مكانه.. حتى تاريخ ميلاده محل جدل. اسمه، جوليان أسانج، بات على كل شفة ولسان؛ فقد اكتسب هذا الشاب الأسترالي شهرة عالمية مؤخرا، بعد أن بدأ موقعه «ويكيليكس» ينشر آلاف الوثائق السرية من البنتاغون والخارجية الأميركية.
لكن مع الشهرة، اكتسب أيضا كثيرا من الأعداء. فالمدعي العام الأميركي إريك هولدر يبحث في إمكانية جلبه للمحاكمة تحت بند الجاسوسية. وسارة بالين التي تتحضر للترشح للانتخابات الرئاسية الأميركية عن الحزب الجمهوري، دعت لملاحقته كما يلاحق أسامة بن لادن. والمدعي العام الأسترالي روبرت ماكليلن يحقق في إمكانية محاكمته بتهمة تعريض الأمن القومي للخطر. مستشار رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر دعا إلى اغتياله. رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين لمح إلى أن موقعه مرتبط بعمل مخابرات أميركية.
لكن لعل أكثر ما يتسبب في وجع رأس للنابغة الأسترالي، مذكرة التوقيف الدولية التي صدرت بحقه بناء على طلب المدعي العام في السويد ماريان ناي، بتهمة اغتصاب امرأتين. وما يزيد الموقف تأزما، رفض المحكمة العليا طلب محامي أسانج رد مذكرة التوقيف الدولية أمس التي باتت على موقع الإنتربول الإلكتروني.
وعلى الرغم من أن أصدقاء أسانج يروجون أن سبب اختبائه اليوم هو خوفه من أن يتعرض للاغتيال، فإن السبب الأكثر مباشرة قد يكون الخوف من الاعتقال. ويرجح البعض أنه يختبئ في مكان ما خارج لندن، علما بأن ظهوره العلني الأخير كان في نادي «فرونتالاين» وسط العاصمة البريطانية قبل بضعة أسابيع. ومنذ ذلك الحين، يظهر بشكل متفرق ولكن من دون الإفصاح عن مكانه. فقد بث قبل أيام شريطا مصورا، يبدو وكأنه التقط بواسطة هاتف جوال في شقة أو غرفة فندق. وبعد ذلك، أعطى مقابلة لمجلة الـ«تايم» الأميركية في اتصال مصور عبر «سكايب» على الإنترنت.
لم يعرف يوما عنوان دائم لأسانج. فهو دائم التنقل، منذ الطفولة. يقال إنه في طفولته عاش حياة أشبه بالبدو الرحل؛ إذ تنقل بين 37 مدرسة، بسبب عمل والديه اللذين كانا يديران شركة مسارح متنقلة. ويروي البعض أنه أخذ الروح الثوري من والديه اللذين تعرف كلاهما على الآخر خلال مشاركتها في مظاهرة ضد حرب فيتنام. والده كان مهندسا، ولكنه كان يحب ركوب الدراجات النارية، علمه أن «الرجل الكريم والقادر يحمي الضحايا ولا يصنعهم»، بحسب ما كتب عنه نيك ديفيز في صحيفة الـ«غارديان». وقال ديفيز إنه يحمل دائما معه حقيبة ظهر فيها ثيابه، وجهاز كومبيوتر للمكاتب وليس محمولا. وأضاف: «يمكن أن يبقى مستيقظا طوال الليل، أصابعه تتنقل على علبة المفاتيح، ومن ثم فجأة يسقط بكامل ثيابه على كرسي إلى جانبه، حين يكون الباقون يستعدون للنهوض». ونقل عن أحد أصدقائه أنه «متهم بالقيام بالأمور غير العادية وأن يستفيد من الوقت بأكبر قدر ممكن».
وقال أحد اللذين عملوا معه في السابق لصحيفة الـ«تايمز» إنه «شخص غريب، يبدو وكأنه يعيش مثل البدو، ولا أدري كيف يعيش هكذا في الحقيقة. يظهر دائما حاملا حقيبة ظهر، وأشتبه في أن فيها كل ما يملكه».
لكن كل هذا التركيز الدولي على أسانج البالغ من العمر 39 عاما، أو 37 عاما، بحسب المصدر الذي تريد اعتماده، دفع والدته كريستين إلى الظهور علانية للمرة الأولى منذ أن بدأ ابنها يتصدر الصفحات الأولى للصحف. وحكت في مقابلة قصيرة نشرت قبل يومين، مع صحيفة محلية في كوينزلاند الأسترالية، حيث ولد جوليان، عن قلقها على أمن ابنها. وكشفت القليل عن هذا الرجل الغامض.. قالت إنها ربته ليكون «باحثا قويا بأخلاق عالية، عن الحقيقة». وروت أنه أبعد نفسه عن عائلته حفاظا على سلامتهم. وقالت عنه: «كان صبيا لطيفا للغاية.. حساسا جدا، جيدا مع الحيوانات، ويتمتع بروح دعابة كبير». وصفته بأنه «فائق الذكاء». وقالت: «يرى أن ما يفعله أمر جيد، محاربة الأشرار إذا أردت. ولكن أنا قلقة من أن الأمر بات أكبر منه وأن القوى التي يقف في وجهها كبيرة جدا». وقالت والدته عنه أيضا إنه «لم يأت من خلفية تكنولوجيا عالية، بل جاء من خلفية إبداع وحب للتعلم وللكتب». وتابعت تدافع عن ابنها: «إذا كنت تتفق مع جوليان أم لا، العيش بحسب القيم التي تؤمن بها والدفاع عنها، هو أمر جيد».
ذكاء أسانج ورطه في مشكلات منذ مراهقته؛ فقد اكتشف سريعا في المدرسة ولعه بالرياضيات وعلوم الفيزياء، وساعده ظهور الإنترنت على تطبيق وتمرين موهبته في الأرقام، فتحول إلى قرصان إنترنت، يدخل الحسابات السرية لرجال أعمال كبار ومؤسسات ضخمة. واتهم عام 1995، مع مجموعة من أصدقائه بعدد من أعمال القرصنة على الكومبيوتر. ولكنه تمكن من تفادي دخول السجن، واقتضى الأمر إطلاق سراحه بعد تغريمه 2100 دولار أسترالي (ما يعادل نحو 1300 دولار أميركي)، شرط عدم التورط في المشكلات نفسها مجددا.
وأمضى بعد ذلك ثلاث سنوات يعمل إلى جانب باحثة أكاديمية تدعى سواليت دريفوس، وكتبا سويا كتابا حول القرصنة على الإنترنت، يدعى «آندر غراوند» أي «تحت الأرض». ووصفت دريفوس أسانج لاحقا بأنه «باحث موهوب جدا» وأنه «كان مهتما كثيرا بمفهوم الأخلاق ومبدأ العدالة، وما يتوجب ولا يتوجب على الحكومات القيام به».
وقد شكل الكتاب الذي يروي قصة مراهق يدعي مانداكس يتحول إلى قرصان كومبيوتر في ملبورن، مصدر تأويلات للصحف الأسترالية التواقة لكشف ماضي أسانج؛ فربطت بين شخصية مانداكس وشخصية أسانج، واستنتجت أن تلك الشخصية في الكتاب قد تكون أسانج نفسه، بسبب التشابه الكبير مع ما هو معروف من حياة أسانج، ومسار حياة الشخصية المفترض أنها خيالية. وبحسب الكتاب، فإن مانداكس كان ولدا فائق الذكاء لم يعرف والده يوما، وقضى معظم وقته يسافر إلى أنحاء استراليا. وعندما كان في عمر المراهقة، اخترع برنامج كومبيوتر يخوله إلى جانب مجموعة من قراصنة الإنترنت من أصدقائه أطلقوا على أنفسهم أمس «المخربون الدوليون»، اجتياح كومبيوترات البنتاغون و«ناسا» ومؤسسات بالغة السرية. وعندما بلغ من العمر 17 عاما، ترك منزل أهله بعد أن جرى تحذيره من غارة ستقوم بها الشرطة. وأصبح أبا لطفل عندما كان عمره لا يتعدى 18 عاما. وأصيب باكتئاب نفسي بعد أن وجهت له الشرطة اتهامات بالقرصنة.
وما هو معروف عن أسانج، في الواقع، أنه في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1989، بينما كانت «ناسا» تستعد لإطلاق مركبة «أتلانتس» الفضائية، ظهر على شاشات الكومبيوتر داخل «ناسا» كلمة «وانك» وهي اختصار لاسم تعتمده مجموعة من القراصنة ويترجم: «ديدان ضد القتلة النوويين». وكان أسانج واحد من 6 قراصنة اعتقلتهم الشرطة على خلفية هذه الحادثة في ملبورن.
ومن نقاط التشابه في قصة أسانج وشخصية كتابه الخيالية، أن أسانج أصبح والدا لصبي، دانيال، عندما كان يبلغ من العمر 18 عاما. وقالت والدته عن ذلك في المقابلة التي أدلت بها قبل يومين، إن ابنها أوقف حياته مؤقتا عندما كان في الثامنة عشرة لكي يهتم بمولوده الجديد الذي يبلغ اليوم 20 عاما ويعمل اليوم في تطوير البرامج في ملبورن. وأضافت: «جولز أوقف حياته ودراسته الجامعية مؤقتا لكي يكون مع دانيال. هو والد رائع، وليس هناك رجال كثر في عمره يقاتلون لأجل أولادهم، ولكن هو تمكن من أن يتصرف على قدر المسؤولية».
وروت كريستين أيضا أن جوليان ودانيال ارتادا جامعة ملبورن معا، حيث درس الوالد علوم الرياضيات والفيزياء، بينما تخصص الابن الذي كان يبلغ 15 عاما حينها في علوم الوراثة. ولا يعرف كثير عن والدة دانيال، لكن كتبت الصحف الأسترالية أن جوليان تطلق منها قبل سنوات وأنهما خاضا معركة للوصاية على ابنهما في المحاكم.
في تلك الفترة، عمل أسانج في مجال حماية الإنترنت في ملبورن، حتى أطلق مشروعه الكبير، موقع «ويكيليكس» الذي انطلق رسميا عام 2007. وذكر الموقع أنه تأسس من «منشقين صينيين، صحافيين، علماء رياضيات، وتكنولوجيين من الولايات المتحدة وتايوان وأوروبا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية». ويقول لموقع «ويكيليكس» إنه مؤسسة غير ربحية، وإنه يعتمد على تبرعات الأشخاص، علما أن صحيفة الـ«تايمز» ذكرت أن تكلفة تشغيله تبلغ 175 ألف جنيه إسترليني سنويا.
وفي الفترة الأخيرة، بعد أن أطلق وثائق البنتاغون والخارجية، كثف الموقع من دعواته لمؤيديه بالتبرع «لكي نبقى أقوياء». ودائما ما يذكر في موقعه على «تويتر» حادثة معينة تتعلق بضغوط يتعرض لها الموقع، ويتبعها بعبارة «تبرعوا.. أبقونا أقوياء».
أسانج نفسه اعترف أن الموقع واجه مشكلات مالية، وقال إنه اضطر إلى أن يصرف على تشغيله من أمواله الخاصة. وعلى الرغم من أنه لم يعلن أبدا عن المبالغ التي يملكها ومن أين جمعها، فإنه معروف أنه يمتلك ثروة لا بأس بها، يقول إنها جمعها «من عمله في الإنترنت». واضطر موقع «ويكيليكس» للتوقف عن العمل لفترة، بسبب المشكلات المالية، قبل أن يعود مطلع العام إلى العمل بقوة أكسبته كثيرا من التأييد؛ ويبدو كثيرا من التبرعات.
قال في مقابلة قبل أيام مع مجلة الـ«تايم» إن موقع «ويكيليكس» هدفه «جعل العالم أكثر تحضرا، والعمل ضد المنظمات الفاسدة التي تدفع الناس في الاتجاه المعاكس». وعام 2007، عندما أطلق الموقع رسميا، كتب يبرر سبب إنشائه: «لكي نغير بشكل راديكالي سلوك النظام، يجب أن نفكر بوضوح وبجرأة، لأنه إذا كنا تعلمنا شيئا فهو أن الأنظمة لا تريد أن تتغير. يجب أن نفكر أبعد من أولئك الذين سبقونا، واكتشاف تغييرات تكنولوجية تقوينا في طرق التصرف أكثر من الذين سبقونا». وكتب في المدونة خاصته: «كلما كانت المؤسسة سرية وغير عادلة، تسبب التسريبات خوفا وبارانويا لدى قياداتها وشلتها».
يفخر أسانج بأن موقعه تمكن من نشر وثائق سرية أكثر من كل الصحافة العالمية مجتمعة. ويقول هازئا بالصحافة على الرغم من معرفته بحاجته إليها: «لا أقول هذا الأمر لكي أقول بطريقة أخرى كم أننا ناجحون.. ولكن كيف يمكن لفريق من 5 أشخاص أن ينشروا معلومات عامة يجري كبتها، على هذا المستوى، أكثر من كل صحافة العالم؟ هذا أمر شائن».
وعلى الرغم من أن أسانج حصل على جوائز عدة؛ من بينها جائزة من منظمة العفو الدولية للصحافة عام 2009 لنشره وثائق عن عمليات اغتيال خارج نطاق القضاء في كينيا، فإن كثيرين ينتقدون مفهوم الموقع الذي لا يخضع للمحاسبة. وعن ذلك يقول أسانج: «عندما تتوقف الحكومات عن ممارسة التعذيب وقتل الناس، وعندما تتوقف المؤسسات عن استغلال النظام، عندها ربما يحين الوقت لكي نسأل إن كان يجب محاسبة الناشطين في مجال حرية التعبير». الفوضى التي تسبب بها «ويكيليكس» في العالم في الأيام الماضية، قد تغير مفهوم العلاقات بين الدول إلى الأبد، كما يأمل أسانج نفسه عندما كتب في رسالة قصيرة على موقعه في «تويتر» قبل نشرها. ولكن رغبة أسانح في تغيير العالم وتحديه للمجتمع الدولي بكامله، أو بمعظمه، قد لا يمر من دون ثمن باهظ، وقد يحول المشاغب العالمي، ذا العينين الرماديتين، والشعر الأبيض (أحيانا أشقر)، إلى فار دائم من وجه العدالة.. أو الاغتيال.
الشرق الاوسط