TODAY - 12 February, 2011
عندما يؤدي الفن دوره الاحتجاجي
البوستر السياسي والخامس والعشرون من يناير


لم تعد وسائل تنفيذ البوستر السياسي في الزمن العولمي كما كانت قبله. لقد تشعبت مراكز الإشعاع الفكري والسياسي ولتمس كل شرائح الشعب عبر مسابر الانترنيت، واندس فضاء الفيس بوك والتويتر الافتراضي في اعتم مسالك دهاليز مخططي الجرائم الإنسانية ومنها السياسية المحلية والخارجية، وفتحت مغاليق الملفات المستورة والمستترة وافتضح المستور أو المحجوب. سقط ابن علي التونسي وسقطت ومزقت الصور الجدارية المستوطنة جدران القاهرة وغيرها من مدن بر مصر، ولم يعد (أسانج) لوحده من يكشف المستور الذي فاحت رائحته الكريهة.
لا بد ومن اجل إن يكتمل للفعل التحريضي دوره الانقلابي أن تتوفر له أدوات تواصلية فاعلة. لا بد له أيضا من بصمة فارقة، علامة دالة مميزة، ولا يكتمل هذا الأمر لاي تجمع أو جمعية أو حزب سياسي أو حتى أي نشاط ثقافي، علمي، فني، رياضي، إلا برسم أو تصوير او تصميم لعلاماته الدالة المختزلة وبحدود تبيان وضوح أهدافها والتي ربما تتحول إلى نوعا من البوسترات الدعائية أو التحريضية. هذه العلامات الفارقة حالها حال كل منتج ثقافي فني تخضع في تنفيذها إلى متغيرات وسائل تنفيذها ضمن مساحة الوسائط المستجدة والمتاحة. لقد اختلفت الآن هذه الوسائل عما قبل وباتت السطوة لأدوات الكومبيوتر أكثر مما لوسائل التنفيذ اليدوية السابقة. لقد وفرت برمجيات التصميم والتنفيذ الرقمية للكومبيوتر مع أرشيفها الصوري الهائل مساحة مفتوحة وفي متنازل اليد لعمل كل ما يخطر ببال الفنان المنفذ، ولم يقتصر الأمر في هذا المجال على الفنان لوحده أيضا. وما رأيناه من صور إعلامية وبوسترات افتراضية للانتفاضة المصرية الأخيرة (الخامس والعشرين من يناير) مثال على ذلك، لقد عمت هذه الوسائط السريعة التنفيذ وباختزالية عالية في إبراز المشهد العام لأيام الانتفاضة وفرسانها الذين لم يعودا مجهولين.



تشير البوسترات إلى أصل الحدث، وتتوزع مساحته نماذج واضحة تنضوي ضمنها العديد من الإشارات الصورية والنصوص والعلامات الدالة التي لا تتطلب جهدا لاكتشافها أو قراءتها. ومن خلال مسح بسيط لمعظم صور البوسترات وشعارات التجمعات والجماعات التي ثورت الشارع المصري من اجل مطالب التغيير على الانترنيت، فإننا نعثر على حوالي الستة نماذج تنضوي ضمن مساحتها الإعلانية الإعلامية الصورية.

ـ شعار حركة شباب السادس من ابريل المتمثل بحركة الكف المضمومة بقوة والتي تحيط بها دائرة حمراء سواء كانت خطية أو مساحة ملونة. حركة الكف المضمومة أو صورتها ليست جديدة كل الجدة، بل هي رافقت نشأت البوستر السياسي في وقت السلم والحرب، وهي تدل على قوة التصميم تارة وعلى التهديد بالحسم تارة أخرى. هي أيضا رمز للاحتجاج على المظالم ودعوة لاسترداد الحقوق بالقوة إذا اقتضى الأمر. لقد نفذ هذا الشعار (والبوستر الاحتجاجي في نفس الوقت) بالأسلوب الشعبي الكرافيتي، ذلك لكونه عمل احتجاجي شعبي، وثانيا لسهولة استنساخه على الوسائط ومنها الجدران. ولا ننسى بان هذه الحركة تأسست على اثر إضراب عام لعمال غزل المحلة في السادس من ابريل لعام ألفين وثمانية، واعتقد بان هذا الشعار او البوستر من حصيلة هذه الفعالية العمالية لذلك الوقت. وهو يتوافق وكل الحركات الاحتجاجية الجماهيرية ويحفز على ضم القبضات المشهرة للأعلى. لقد أضيفت



كلمات جديدة لهذا الملصق مثل (جمعة الغضب) و (25 يناير يوم الانتفاضة المصرية)، كما بالإمكان إضافة اية كلمات أو شعارات أخرى تنسجم والحدث إن لم يتم إضافتها فعلا.

ـ بوسترات حملت شعار (25 يناير) سواء بنص مكتوب بخط احمر عريض بالعربية أو بالانكليزية أو بنص مكتوب على العلم المصري أو العلمين التونسي والمصري وما في ذلك من دلالة واضحة لدور ثورة الياسمين التونسية بتفعيل الشارع المصري. واعتقد بان هذه البوسترات أيضا صنعت بعجالة وفرتها التقنية الرقمية ولكن بدون تعقيدات لمشهديه الصورة والتي من الممكن أن تتوفر لغالبية مستخدمي برنامج الفوتوشوب بأبسط أدواته. مع ذلك فهناك أيضا تقنيات عالية في تنفيذ بعضها الآخر، من مثل البوستر الذي يوظف وجه شاب مصري ضمن مساحة ألوان العلم والذي دون عليه بالانكليزية (نعم نستطيع ذلك) والمعنى لا يخفى على اللبيب. أو البوستر الصوري الآخر الذي يشكل من العلم قلبا يضمه كفان متقاطعان يشكلان صورة القلب مضاعفة وتفترش هذه الاضمامة عشب الأرض كتعبير عن صلة العلم كوطن بالقلب الإنساني وحاضنه الجغرافي. وبالتأكيد فأية إشارة رمزية مضافة سوف تؤدي بثا تواصليا مكثفا ما دامت مشغولة ضمن مساحة الأداء الإعلانية المختزلة والواضحة المعالم كلوحات الإشارات المرورية. ولتدل هذه البوسترات أخيرا على أن هذه الحركة ليست ملكا لأحد بل هي مشاعة للشعب المصري الذي ينضوي تحت خفقة علمه بحثا عن نقاء أزمنة جديدة لأجياله الجديدة.

ـ بما ان هذه الانتفاضة هي بعض من حراك المساحة الرقمية الافتراضية، لا، بل هي إحدى ثمارها، فقد صنعت بوسترات أخرى ترمز إلى الدور التواصلي الحر لهذه الوسائل أو المسارب الإعلامية الفائقة السرعة والفاعلة ثقافيا وإداريا وإجرائيا على اثر قطع السلطة المصرية للانترنيت في أيام الانتفاضة الأولى في مسعى منها لحجب حقائقها وللتعتيم عليها عالميا ولقطع خطوط اتصالاتها الأهم وعزلها عن العالم. ناسية هذه السلطة بان زمن الحجب ولى ولم يعد مجديا أصلا في زمن البدائل الفضائية الأخرى. لقد حملت بعض هذا البوسترات علامة الـ (الفيس بوك) وقد احتل وسطها علامة منع المرور المروية إعلانا للعالم بحجب هذه الوسيلة التواصلية الديمقراطية عن أناس مصر المعترضين على سياسات النظام سلميا. وفي بوسترات أخرى خارطة مصر وفي الوسط منها مربع اسود يحتوي على نفس علامة المنع المرورية التي تخفي خلفها جهاز موبايل أو في أخر حمامة. وفي الجانب الأخر من الصورة السياسية التي تحاول إرباك الوقائع هذا البوستر الذي يدعو إلى (انترنيت بدون فتنة) ردا على فضاء الحرية وانحيازا إلى الحاكم لا المحكوم. وهكذا هو هذا الفضاء السبراني مفتوح على كل الاحتمالات ومتاح للجميع.



ـ البوسترات الصورية (الفوتوغرافية). هي صور فقط لكنها تعبر عن الحدث ـ الرأي وبوسائط صورية فوتوغرافية مباشرة وبأبسط التقنيات. لكنها من أنجح الوسائط التواصلية إذا ما اختيرت أو صنعت بعناية للتعبير عن جوهر الحدث واصله. من هذه الصور البوسترية والتي اعتبرها أدت غرضها التحريضي لهذه الانتفاضة صرة مزدوجة لحسني مبارك والبرادعي بنفس القياسات ولكن باختلاف تعبيرات الوجوه حيث يبدو مبارك في حالة عكرة بينما البرادعي منبسط الأسارير. الصورة الأخرى لسيدة مصرية بكمامة على فمها مدون في وسطها و بالخط العريض (كفاية) وهي عبارة عن شعار حركة كفاية وفي أعلاها (الحركة المصرية من اجل التغيير) وفي أسفلها (لا للتمديد.. لا للتوريث) و (حكمك باطل) وفي خلفية لقطة الصورة رجال بوليس وحواجز. وبوستر صوري آخر لفتاة معتمرة العلم المصري على رأسها وباسطة كفها الذي دون عليه بالأسود وبالانكليزية (اذهب).

ـ لجماعة الشهيد الشاب (خالد سعيد) بوستراتها الخاصة سواء منها الصورية او المرسومة أو المصممة. البوستر الصورة الناطق بالفاجعة، يحتوي على صورتين متجاورتين للشهيد. يبدو في إحداها كما كان شابا وسيما وطريا وفي الثانية وجها شوهه التعذيب وكأنه تعرض لزلزال. في البوستر الثاني خالد الشاب وشريط الحداد الأسود المائل، ودون على هذا البوستر (رحمة عليك يا اخ خالد) وكما يبدو فهو تعزية من رفاقه الشباب. وبوستر مرسوم آخر يبدو فيه خالد وهو يرفع بقبضته حسني مبارك كما يرفع القرقوز، دون على هذا البوستر بالانكليزية (25 يناير). كما صنعت عدة بوسترات أخرى لخالد مع العديد من المدونات أو الشعارات الخاصة بالانتفاضة وأرقام هواتفها الخاصة. لقد تحول هذا الرمز الوطني ألا منتمي الى أية جعة حزبية إلا إلى وطنه إلى مساحة افتراضية احتجاجية كان لها دور بارز في إشعال الانتفاضة.



ـ أخيرا فقد أفرزت هذه الانتفاضة مساحة واسعة من حرية التعبير عبر وسائل التعبير المتعددة ومنها هذه المساحة الإعلامية الصورية المرسومة والمطبوعة، لقد أتنضم ضمنها العديد من البوسترات بتقنيات مختلفة و اشترك أكثر من فنان محترف وغير محترف في ذلك ليعبروا عن رأيهم أو ليحرضوا أنصارهم والآخرين لجانب قضيتهم. من هؤلاء الفنان العراقي المغترب (مظهر احمد) الذي عودنا على مساهماته في التعبير عن القضايا الإنسانية الملحة. هو الآخر استخدم الانترنيت ليوصل رسالته التي نفذها على شكل بوستر معبر ومختزل والذي يتمثل في رسم لقفل مكسور يحتل مساحة كبيرة من فضاء الورقة البيضاء ويحمل علامته (خارطة الوطن العربي) وبعنوان الانتفاضة بالعربية، وبالانكليزية في ثقب القفل. بوسترات أخرى مرسومة بوجوه صارخة أو كفوف ملطخة بالدماء والعديد من الرسوم الكاريكاتورية الفاضحة لسوء استعمال السلطة ورموزها، ونأمل ان لا تقتصر المساهمة على الإنسان والفنان المصري بل ان تعدى المساهمة لبقية الفنانين والإعلاميين العرب ما دام الأمر يحمل في طياته تغييرا للسلوك السياسي الاجتماعي المنفتح على الفضائات الأكثر حرية والأنظف أدبيا. ويمتلك كل منا أرادته الحرة الغير خاضعة للزيف والتدجين.

(*) ـ كتبت المقالة في اليوم السابع من هذا الشهر، وبعد ما أسفرت عنه هذه الانتفاضة والشعب بطلها بما هيئته لها الوسائل الاتصالاتية الجديدة وأدواتها المعلوماتية السائلة الفائقة النفاذ لكل زوايا وحارات مصر والعالم وعمالها المجهولين والمعلومين. فليكن انفتاحنا على هذه الوسائل وتقنياتها هو طريقنا لمستقبل أكثر حميمة وعدلا. وتهنئة لمن حرر من ساحة التحرير. ودعوة للفنانين العرب للاحتفال بهذا النصر الإنساني الكبير من خلال أعمالهم، فليست كل الأيام متشابهة.
مالمو