TODAY - February 24, 2011
الهوني: القذافي كان بسيطا.. وفاتحني بإقامة تنظيم الضباط الاحرار (2)

لندن - غسان شربل

حين اطل اول من امس من منزله المدمر في باب العزيزية بدا معمر القذافي في صورة محارب جريح يصر على اطلاق رصاصاته الاخيرة. ظهر كمن يتحدث الى التاريخ. لم يخاطب شعبه إلا ليؤنبه وليهدد «الجرذان». تهديداته لم تبدد الانطباع ان سفينة نظامه تغرق. وأن هيبة عهده المديد قد ثُقبت. وأن معركة طرابلس قد تكون خاتمة معاركه.
كنا صغاراً حين بثت الاذاعات ان مجموعة من الضباط الشبان استولت على السلطة في ليبيا في «الفاتح من سبتمبر» 1969. وأغلب الظن ان معظم المحتجين في شوارع ليبيا اليوم لا يذكرون ذلك التاريخ. أبناء هذا الجيل الغاضب ولدوا في عهد القائد وتحت صوره. والامر نفسه يمكن ان يقال عن الشباب العرب الغاضبين في اكثر من مكان.
تستحق بدايات القذافي في السلطة ان تروى. تساعد على الفهم وتتيح فرصة المقارنة. قد يكون الرائد عبدالمنعم الهوني هو الاقدر على هذه المهمة. فهو التقى القذافي للمرة الاولى في 1963 ثم في ثكن الجيش قبل ان يتشاركا في العملية الانقلابية التي اتاحت لهما الجلوس معاً في مقاعد مجلس قيادة الثورة قبل ان يفترقا لاحقاً.

وهنا نص الحلقة الثانية:

> ما هو أخطر حادث وقع في مجلس قيادة الثورة اثناء مشاركتك فيه؟

- حصلت صدامات كثيرة. في احد هذه الصدامات كاد معمر ان يقتل، وبالتأكيد كان قتل لو لم نتدخل. حصل هذا الصدام بين معمر وعمر المحيشي. هنا لا بد من ان نرجع الى محاولة الانقلاب التي قادها آدم الحواز وموسى احمد. وقع صدام بين موسى احمد وزير الداخلية وعمر المحيشي الذي وجه اهانات اليه بالكلام والاشارات معا. طلب موسى احمد من معمر تشكيل محكمة ليمثل الاثنان امامها وان تصدر المحكمة حكمها لمصلحة احدهما. كان المحيشي عضواً في المجلس ووزيراً في حكومة برئاسة معمر شكلت بعد حكومة المغربي. وفي الحكومة الجديدة دخلنا انا وعبدالسلام جلود ومحمد المقريف. توليت انا وزارة الداخلية وجلود الاقتصاد والمحيشي التخطيط والمقريف الاسكان.

بداية الصدام بين المحيشي واحمد كانت تافهة لكن المحيشي انفعل ولم يكن محقاً في نظر الاعضاء. وماطل معمر في الرد على طلب تشكيل محكمة فنقل موسى احمد ما حصل في الجلسة الى بقية الوزراء فتعاطف معظمهم معه. آدم حواز تعاطف مع موسى احمد وقال له: ما دام هؤلاء الناس يعاملونك على هذا النحو فماذا ننتظر لنتخلص منهم.

الصدام وقع في حضور اعضاء مجلس قيادة الثورة وصادف ان دخل موسى احمد. قرر ان ينتقم وهو اقسم ان يفعل ذلك اذا لم نأخذ له حقه من المحيشي. بدأ يتصل بالضباط وهكذا تم الاعداد لما سمي حركة موسى احمد او حركة الحواز الى ان قبض عليهم في 24 ديسمبر (كانون الاول) 1969.

القى معمر خطاباً في مصراتة وقال: سننفذ الوحدة ولو سرت لوحدي ولو بقوة هذا الرشاش (ورفع رشاشاً في يده). حين عاد الى طرابلس لامه الاعضاء وقالوا له كلنا مع الوحدة فلماذا هذا الكلام. تحدث عمر المحيشي فرد عليه معمر: انا الذي احميك ولولا حمايتي لقتلك موسى احمد. انفعل المحيشي وتناول الرشاش وقال انا لا احد يحميني لا انت ولا غيرك واقترب بالرشاش وصوبه في اتجاه معمر فقفزنا انا وابو بكر يونس وانقضضنا عليه وطرحناه ارضاً وانتزعنا الرشاش منه. كان معمر في هذه الاثناء قد سحب مسدسه والاكيد ان عمر المحيشي كان سيطلق النار وسيقتل معمر لو لم نكن الى جانبه ونسارع اليه.

> هل هذه هي المرة الوحيدة التي حصل فيها سحب مسدسات؟

- لا حصلت اكثر من مرة لكن الحادث الذي اشير اليه كان الاول من نوعه وسحب فيه رشاش وليس مجرد مسدس. هذه اخطر حادثة وقد انقذنا القذافي من الموت المحتم.

> الى اي تنظيم كنت تنتمي او الى اي تنظيم كنت اقرب؟

- كان تأثير حركة القوميين العرب كبيراً علينا. وجود الحركة كان ملموساً في طرابلس القريبة منا (الهوني من مواليد قرية قريبة من طرابلس) وكانت لعناصر منها علاقة مع قريب لي فكان لهؤلاء تأثير في تشكيل وعيي وادراكي وطموحي. هذه العلاقة مع الشخص المعني توطدت بعد دخولي الكلية العسكرية. لم يكن للاحزاب ترخيص ووضع قانوني لكنها كانت تمارس نشاطها وكانت تسيطر تقريباً على كل النقابات والنشاط الثقافي والصحفي.

> عمن كنت تسمع من رموز حركة القوميين العرب؟

- كان رمز القومية العربية الذي لا يختلف عليه اثنان آنذاك هو جمال عبدالناصر. ثم كنا نسمع عن قيادة الحركة على المستوى القومي كالدكتور جورج حبش ثم نايف حواتمة. اما على الصعيد الوطني فكنا نسمع بالقيادات كلها وبينها الاخ عزالدين الغدامسي وعمر المنتصر الذي كان عنصراً قيادياً.

> هل كان هناك تخطيط حزبي لدخولكم الكلية الحربية؟

- نعم كان هناك نوع من التخطيط، اذ ان المجموعة التي كنا على علاقة بها اعتبرت ان دخول القوات المسلحة هو الطريق الوحيد لتحرير ليبيا واحداث تغيير فيها. القوات المسلحة هي الجهاز الوحيد المنظم والجهة الوحيدة التي كانت قادرة على التغيير.

> من هم افراد المجموعة التي كانت تحرضكم على دخول الجيش؟

- من بينهم جمعة الفزاني وغيره. القوميون العرب كانوا يحرصون على دفع الشباب الى الكلية العسكرية. والامر نفسه بالنسبة الى حزب البعث. في دفعتنا كانت هناك عناصر كثيرة من القوميين العرب والبعث والاسلاميين.

> هل كان هناك تنسيق بين القوميين والبعث ام تنافس؟

- كان هناك تنافس.

> لماذا لم يتعرض النظام لكم؟

- استهدف قيادة التنظيم وحكم على قياديين بالسجن سنوات، ولكن لم تصل الملاحقة الى القواعد. وحتى بعد محاكمة القيادات اعادت عناصر الصف الثاني تنظيم نفسها وبدأت بتحريك الشارع. وربما كان النظام ينظر الى تحركات الشباب تحت سن الـ 25 كحركات طائشة وهوجاء تنطلق من الحماسة. وبهذا المعنى لم يكن النظام الليبي السابق يتعامل مع الاصوات المعارضة او المحتجة بالحسم والقسوة اللذين يميزان التعامل الحالي. اكثر من ذلك: وردت خلال التحقيقات اسماء عسكريين يمارسون نشاطات حزبية ولم يُلاحقوا.

اول لقاء مع القذافي

> متى التقيت القذافي للمرة الاولى؟

- التقيته للمرة الاولى صيف 1963 وكان يزور احد اصدقائه في بلدة جنزور ويدعى رجب خليفة حسين، وكان يدرس معه في ثانوية مصراتة. وعُيّن في وكالة الانباء الليبية كما عُيِّن ناطقاً رسمياً في الايام الاولى بعد الحركة. وكان شقيق رجب يسكن لدى احد اقاربي وكنت ازور هذا القريب بالصدفة. سألت عن الشاب فأجابوني ان اسمه معمر القذافي وهو من سرت. حصل تعارف وكان اول سؤال وجهه إلي: هل تحب جمال عبدالناصر ام لا؟ طبعا اجبت أن كل الليبيين يحبون عبدالناصر. شخص واحد في قريتنا لم يكن يحب عبدالناصر وهو امام المسجد وأصله من مصراتة ويحب بورقيبة الذي ينتمي الى المكان نفسه وكان يهاجم عبدالناصر آنذاك.

في ذلك اليوم القى بورقيبة خطاباً هاجم فيه عبدالناصر. وفي حواري مع القذافي هاجمت مواقف بورقيبة. وسألني القذافي السؤال نفسه يوم التقينا في الكلية العسكرية اذ قال لي: «هل ما زلت تحب عبدالناصر». وحين رددت بالايجاب اعطاني كتاباً للزعيم المصري اسمه «قصة الثورة». وكان نزع غلاف الكتاب لئلا يعرف الآخرون اي كتاب يحمل. وطلب مني ان اقرأ الكتاب. بعد يومين اعدت اليه الكتاب فأعطاه لآخرين.

كنا نلتقي في الاجازة الاسبوعية داخل مدينة بنغازي. الكلية الحربية كانت في شرق ليبيا، ونتكلم في امور كثيرة باستثناء فكرة اقامة تنظيم. وكان يعرف علاقاتي القوية بحركة القوميين العرب.

> كيف كان القذافي يفكر في تلك المرحلة؟

- في قصته التي كتبها بنفسه يقول انه انتمى الى الجماعات الاسلامية او تأثر بالفكر الاصولي الاسلامي في مدينة سبها، وذكر احد الاساتذة الذين اثّروا فيه. ودخل حزب البعث عن طريق وزير الزراعة محمد التبو. ثم دخل تنظيم حركة القوميين العرب عن طريق طاهر المحيشي شقيق عمر المحيشي. هذا ما يقوله هو ليصل الى خلاصة واحدة هي ان هذه التنظيمات بعيدة كل البعد عن الواقع الليبي والواقع العربي.

ولادة التنظيم

> كيف كان القذافي يبدو آنذاك؟

- بصراحة اقول كنا نتصور انه شخص مثالي، شديد التأدب في حديثه وشديد البساطة في عيشه ويكره البهرجة في اللباس وهذا ما كنا نعتبره تواضعاً وبساطة. كان القذافي ايضاً شديد التمسك بمواقيت الصلاة ويحض الآخرين على التزامها.

في احد ايام الاجازة الاسبوعية توجهت الى طرابلس واذ به يصل. فوجئت بزيارته وكان عندي احد اعضاء حركة القوميين العرب، ولن اذكر اسمه، ولاحظ كأننا في لقاء تنظيمي. سألني: هل صحيح انك ارتبطت مع القوميين العرب، وكنا لا نزال طلاباً في الكلية الحربية التي دخلناها في 1963. عندما عدنا الى بنغازي فوجئت به يقول لي: «نحن العسكريين علينا ان نقطع صلاتنا بالتنظيمات السياسية المدنية. هل قرأت الكتاب الذي اعطيتك إياه؟ («قصة الثورة» لجمال عبدالناصر). انا اسعى كي نقيم تنظيما على الطريقة التي اعتمدت في مصر، اي على غرار الضباط الاحرار وانت اول شخص افاتحه بالموضوع». قلت له: هل يبدأ التنظيم بي وبك فقط، فأجاب: «يمكن ان نضم شخصين آخرين». فطلبت ان نلتقيهما.

بعد اسبوع التقينا القذافي وانا وعبدالسلام جلود وابو بكر يونس. هذا هو الاجتماع الاول وكان رباعياً وعقد في الكلية العسكرية. استمرت اجتماعاتنا اسبوعية. كان هذا في 1963. انضم الينا لاحقاً شخص خامس اسمه سالم مسعود البوصير وهو طالب من الدفعة نفسها. اتفقنا على المواصفات التي يمكن على اساسها ضم عنصر جديد الى التنظيم. وكانت المواصفات كلها اخلاقية اي ان يصلي ويكون معروفاً بانضباطه، وان لا يشرب وان تكون خلفيته الاسرية معقولة. لم يكن القذافي يحبذ ان نفاتح ابناء الاسر الكبيرة والغنية، كنا نخاطب ابناء الطبقة الوسطى. فاتحنا عدداً من العسكريين.

هكذا استمر العمل وفي اغسطس (آب) 1965، قبل التخرج بحوالي عشرة ايام، شكلت اللجنة المركزية للضباط الوحدويين الاحرار. عقد الاجتماع في بنغازي. كان من التقاليد ان يقضي الطلاب الشهر الذي يسبق التخرج في الصحراء في تدريبات نهارية وليلية يتم في ضوئها اعطاء علامات المادة العملية، وبعدها تعلن نتائج النظري والعملي، وفي 9 اغسطس (آب) يتخرج الطالب او يعيد سنته تبعاً لعلاماته.

أصرّ القذافي على ان تكون اللجنة من 12 ضابطاً وكان ينقصنا شخص واحد والكلام يدور على الاختيار بين اثنين: عبدالرحمن الصيد ومصطفى الخروبي. وتقرر في النهاية ان يكون الخروبي هو العضو الثاني عشر. كنا نحن من انصار اختيار الخروبي لاننا نعرفه اكثر وهو من دفعتنا، في حين كان الصيد من الدفعة اللاحقة لكن معمر كان يعرفه اكثر.

والاعضاء هم: عمر المحيشي، بشير هوادي، الخويلدي الحميدي، مختار القروي، محمد المقريف، عوض حمزة، معمر القذافي، محمد نجم، عبدالسلام جلود، ابو بكر يونس وأنا. ودخل الخروبي لاحقاً بعد اربعة اشهر تقريبا من بداية الحياة العملية في المؤسسة العسكرية. كنا من الدورة نفسها باستثناء المحيشي والمقريف فقد كانا من الدورة اللاحقة لنا، وكنا نحن الدفعة السابعة من الكلية الحربية.

> تخرجتم برتبة ملازم وتفرقتم؟

- نعم وصادف اننا عيِّنا في معسكر واحد معمر وأنا. في معسكر قار يونس الذي يبعد نحو عشرة كيلومترات عن مدينة بنغازي. كان المعسكر يضم صنفين: الاشارة والهندسة. عينت في مدرسة الهندسة وعين معمر في سلاح الاشارة. وجدنا معاملة جيدة جداً من الضباط الاقدم منا فاقت تصورنا. كنا نخشى من ان نواجه بمشاكل واحتكاكات في ضوء ما كنا نسمعه، لكننا وجدنا كل مساعدة ومساندة. تابعت دورة لسلاح الهندسة وتابع معمر دورة في مدرسة الاشارة التي لم تكن في المعسكر نفسه. مدة الدورة اربعة اشهر وعاد القذافي الى قار يونس وامضينا السنة الاولى هناك.


تلك السنة كانت حاسمة بالنسبة الى التنظيم. عرفنا للمرة الاولى أنه توجد داخل القوات المسلحة تنظيمات متعددة ومجموعات متنافسة. مجموعة الضباط المتخرجين من العراق كانت مترابطة ومتماسكة، والامر نفسه بالنسبة الى الضباط المتخرجين من مصر. كان الجيش في السابق يعتمد على الضباط المتخرجين من العراق او مصر او الاردن. الضباط الذين تخرجوا من العراق كانت تربط بينهم علاقات قوية وكذلك الذين جاؤوا من مصر. فوجئنا بهذه التنظيمات. وكانت هناك تنظيمات اخرى تسعى الى اطاحة النظام. كان علينا ان نسبق هذه التنظيمات وقررنا تركيز جهودنا على الضباط الاصغر رتبة منا. ولهذا تلاحظ ان التنظيم تكون من طلاب الدفعة السابعة الى طلاب الدفعة العاشرة.

عقدنا اجتماعات دورية وكنا نلتقي في منطقة الشرق شهريا. والامر نفسه في المنطقة الغربية. وكان يعقد لقاء موسع مع اللجنة المركزية كل ثلاثة اشهر. كل هذه اللقاءات كانت سرية وكانت ترتب بالاتصال المباشر لا بالهاتف ولا بالرسائل.

صاحب المبادرة الاولى

> هل ظهر دور القذافي القيادي في تلك المرحلة؟

- نعم كان صاحب المبادرة الاولى في اقامة التنظيم. طبعاً كانت لمعظم الذين انضووا في التنظيم علاقات حزبية او تنظيمية من قبل. ابو بكر يونس كان مع البعثيين. ربما لأن العسكريين كانوا يبحثون آنذاك عن سبل تغيير النظام. اعود وأقول للامانة ان القذافي كان صاحب المبادرة التي ادت الى ضم كل هؤلاء في تنظيم عسكري. والواقع ان التعصب للتنظيم جعلنا لا نتوقف عند المآخذ على تصرفاته والتي كان الضباط الارفع رتبة يبدونها. بعضهم كان يتهمه بالافراط في المظاهر خصوصاً حين يكون في النادي العسكري ويحين موعد الصلاة وينادي الحاضرين للصلاة معه. يضاف الى ذلك انه كان يعارض استخدام اي شتيمة في الحديث او اي نعت قاس بحق احد الزملاء. واذا حدث شيء من ذلك كان يترك الجلسة ويعتبر ما حدث سقطة كبيرة جداً. وكان لاحقاً يعاتب من ارتكب ما يعتبره هو خطأ كبيراً وربما امتنع عن الكلام مع هذا الشخص يومين او ثلاثة احتجاجاً.

> هل تعرّفت الى والد القذافي ووالدته؟

- نعم، اعرفهما شخصياً. زرت منزله وأكلت عنده في سرت. هذا حصل خلال سنوات الدراسة وبعدها. ذهبنا الى مسقط رأسه عند حافة الوادي وحكى لي كيف ولد في بيت الشعر وأين وضعته امه.

> متى بدأ الاعداد الفعلي لموعد ما لتنفيذ الحركة العسكرية؟

- في 1966 اتسع التنظيم اتساعاً جيداً. انضم الينا عدد كبير من الدفعات التالية ثم صرنا نحو 90 ضابطاً اضافة الى اعضاء اللجنة المركزية. كانت لدينا اشتراكات رمزية. وكان هناك نوع من التعاون والتعاضد. اذا تزوج ضابط كنا نجمع من رواتبنا ونساعده. ولم تكن الاشتراكات شهرية بالضرورة، وكان هناك بعض التبرعات من الاعضاء للتنظيم. في 12 آذار (مارس) 1969 شعرنا بأن لدينا من القوة ما يكفي للقيام بعمل عسكري يؤدي الى اسقاط النظام.

كنا في سنة 1966 و1967 احسسنا بأن تنظيم الضباط الاحرار صار يمتلك من القوة ما يؤهله للدخول في حوارات مع التنظيمات الاخرى. وهكذا بدأنا حواراً مع التنظيم الذي كان يقوده مكي ابو زيد، وهو ضابط معروف بخلقه، وكذلك مع عبدالمطلوب عزوز وهؤلاء من الناصريين. وكان الهدف من الحوار البحث عن صيغة لدمج التنظيمين. والحقيقة ان معمر كان حريصاً على ان يفاوض شخص واحد باسم تنظيمنا وان يكون هو هذا الشخص. اي ان يكون هو حلقة الاتصال الوحيدة مع سائر التنظيمات لضمان عدم تسرب شيء عما يجري. فخليل جعفر مثلاً كان الرجل الثاني في المخابرات الحربية وعضواً في التنظيم الآخر. لهذا كان لا بد من التحسب خوفاً من ان يكون الحوار محاولة لاستدراج تنظيمنا وكشفه. الوحيد الذي كان يحاور التنظيمات كان معمر القذافي، وفي بعض الحالات كنا نشارك انا ومصطفى الخروبي لأن عبدالمطلوب عزوز كان معنا في المعسكر نفسه وكنا نحاوره على صعيد الافكار لابراز عدم وجود فوارق كبيرة وبالتالي اهمية التنسيق اذا تعذر التحالف.

قبل 12 مارس (آذار) 1969 بثلاثة اسابيع اجتمعنا في بنغازي وحصرنا امكاناتنا العددية وانتشار ضباط التنظيم في الوحدات فتأكد ان تنظيم الضباط الاحرار بات موجوداً في كل وحدات الجيش الليبي وفي كل الاسلحة: المدرعات والهندسة والاشارة والمدفعية والمشاة. وخدمتنا الظروف حين حصلت عمليات انتقال لبعض الكتائب وجاءت لمصلحتنا، اذ بات لنا وجود كثيف في المدن. كانت لدينا كتيبة مثلاً في سبها ونقلتها القيادة الى بنغازي. فعلت القيادة ذلك - كما عرفنا لاحقاً - بهدف اضعافنا لكن الخطوة خدمتنا.

كانت القيادة الليبية كشفت التنظيم لكنها رأت ان من الافضل لها ان ترجئ القبض على العناصر القيادية في التنظيم لمدة ستة اشهر او اكثر في انتظار تمرير صفقة تسليح الجيش واعادة تنظيم الجيش. في تلك المرحلة كانت الحكومة برئاسة عبدالحميد البكوش تناقش مع البرلمان مشروع اعادة تنظيم الجيش وتسليحه تسليحاً كاملاً. عقدت اتفاقات كبيرة مع بريطانيا ودول اخرى وأعد برنامج كبير للتدريب والتأهيل كي تتمكن القوات المسلحة من استيعاب الاسلحة المتطورة. كان عبدالعزيز الشلحي قائداً للجيش وكان صاحب اقتراح ارجاء القبض على مسؤولي التنظيم لاعتقاده بأن حصول الاعتقالات سيدفع الملك الى القول انه لم تعد ثمة حاجة الى صفقة سلاح بهذا الحجم. كانت تقديراتهم ان تنظيم الضباط الاحرار هو في حالة من الضعف والاهتراء فلا يشكل مصدر خطر، وان الجنود لن يتجاوبوا مع اي تحرك يقوم به صغار الضباط.

في مارس (آذار) اجتمعنا في بنغازي ودققنا في خريطة انتشارنا فوجدنا اننا حاضرون في كل المدن الكبيرة خصوصاً طرابلس وبنغازي. تأكدنا من قدرتنا على تحريك كتيبتين في طرابلس وثالثة في الزاوية التي تبعد 40 كيلومترا عن طرابلس والامر نفسه في بنغازي واماكن اخرى. وشعرنا بأن باستطاعتنا تحريك القوات المسلحة والسيطرة على البلد.

عقد اجتماع في اوائل مارس (آذار) 1969 وكان معمر هو من دعا اليه بغرض حصر عناصر التنظيم وتدارس اوضاعه وسبل انتشار هذه العناصر في مختلف وحدات الجيش ومدى القدرة على تحريكها. وجهت الدعوة الى الضباط الاعضاء في المنطقة الشرقية والتقينا في منطقة خارج بنغازي كانوا يسمونها الهواري واقيم فيها لاحقاً مصنع اسمنت. في ذلك اليوم تأخر معمر عن الحضور. وحتى اللحظة لا نعرف السبب. وكان الاجتماع مقرراً عند الصباح وامتد حتى الثالثة بعد الظهر، ولم يحضر القذافي فأرسلنا مختار قروي الى بنغازي ليأتينا بساندويشات كي نأكل ونستأنف البحث. وحضر القذافي لاحقاً.

لماذا تأخر القذافي

بنهاية الاجتماع ظهرت حماسة عالية لدى الضباط. كان لدى الكثيرين وانا منهم شعور بأن علينا التحرك سريعاً وان افضل وقت لذلك هو خلال وجود الملك في بنغازي. كان مقرراً ان يصل الملك اليها في 12 آذار (مارس) ورأى معظم الضباط ان يتم التحرك في ذلك الموعد للقبض عليه وارغامه على التنازل شخصياً عن العرش وليس عبر ولي العهد كما حصل في ايلول (سبتمبر). حين حضر معمر مع مصطفى الخروبي الذي ذهب وجاء به اقنع الحاضرين بأن لا داعي للتحرك بسرعة. مصطفى الخروبي كان يبدو سنوسياً حتى العظم لمن لا يعرفه جيداً فهو لم يكن يقسم الا «بسيدي ادريس». طبعاً هذا من قبيل التمويه. قد يكون مصطفى اقنع معمر بأن وجود الملك ادريس قد يتسبب لنا في مشاكل مع بعض القبائل المؤيدة له في بنغازي اذا تعرضنا له. وشدد معمر على ان تكون الحركة عسكرية بيضاء لا يراق فيها دم ليبي واحد. وقال ان حراس الملك على الاقل سيقاومون وربما وقعت صدامات في بنغازي. اقتنعنا بهذا المنطق واتفقنا على ارجاء الموعد من 12 آذر (مارس) الى تاريخ لاحق يحدد في ما بعد.

اما لماذا تأخر القذافي ففي اعتقادي انه كان يتصور انه قيد الرقابة والمتابعة من قبل السلطة وان وضعه يختلف عن وضع الآخرين المدعوين الى الاجتماع باعتبارهم غير معروفين الى هذه الدرجة. بعد الحركة في سبتمبر (ايلول) ثبت ان الضابط خليل جعفر كان كلف متابعة معمر، كما كلف العقيد بلقاسم متابعته حين يحضر الى طرابلس. وكان الضباط الذين كلفوا متابعته من ذوي الميول والمشاعر القومية وكانوا يتمنون تغيير النظام. ربما لم يكونوا من المؤيدين لحصول التغيير على يد صغار الضباط او تنظيم الضباط الاحرار بالذات، لكنهم كانوا يؤيدون التغيير. وربما كان لديهم شك في امكانات نجاحنا واعتبروا ان من الافضل لهم ان نتحرك نحن ونفشل ليتمكنوا لاحقاً من القيام بتحرك ناجح. اعتقد انه لهذه الاسباب لم يساهم هؤلاء الضباط في قمع التنظيم او الايقاع به.

معمر يعارض اطلاع مصر

> هل كانت لديكم في تلك المرحلة علاقات مع مصر؟

- انا ذهبت الى مصر في اواخر آذار 1969 واعتقد في 27 منه. كانت الرحلة للعلاج والاتصال بالضباط الذين فروا من الجيش الليبي وانضموا الى القوات المسلحة المصرية وشاركوا في حرب 1967. في 7 حزيران (يونيو) 1967 جمع جزء من القوات الليبية على الحدود المصرية في اطار الدعوة الى المشاركة في المواجهة مع اسرائيل. كانت هناك وحدات مدرعات ومدفعية ومشاة. وراحت رئاسة الاركان الليبية تماطل وتقول لهم ان التعليمات بالمشاركة لم تأت بعد. فاقتحم بعض العسكريين بآلياته بوابات الحدود ودخل الاراضي المصرية وشارك في القتال، وبين هؤلاء ثلاثة ضباط كانوا معروفين جيداً لدينا واحد منهم، رحمه الله، عمر الواحدي والثاني سليم الحجاجي وخليفة عبدالله. قبل ان اذهب الى مصر حصلت على عناوينهم من اقربائهم. وحين وصلت بدأت بالبحث عنهم. التقيت عمر الواحدي وهو من دفعة سابقة لنا وامضينا سنة في الكلية العسكرية وكنا على اتصال بعد تخرجه.

الحقيقة ان معمر كان ضد فكرة تبليغ المصريين، لكن بعض الاخوة اعتبر ان علينا القيام بذلك من باب العلم بالشيء ولأن الحركة العسكرية مؤيدة لعبدالناصر. لم يكن مطلوباً البحث في التنسيق او غيره، ولم يكن هناك تحديد لمواعيد. حتى آخر لحظة قال لي معمر الا ابلغ المصريين. التقيت عمر الواحدي، وهو من الضباط الذين كنا دعوناهم للانضمام الى التنظيم، ودار بيننا حديث. قلت له: انت تعرف بوجود تنظيم في القوات المسلحة وهو صار قوياً وقادراً على القيام بتحرك ناجح واتمنى ان تبلغ انت المصريين... وبهذه الحدود. قال الواحدي ان له علاقة بسكرتير عبدالناصر الذي هو حالياً رئيس اتحاد الكرة... واقترح ان يتصل به لترتيب اجتماع وان ابلغه انا شخصياً هذه المعلومات، فلم اوافق وقلت من الافضل ان يحصل التبليغ بواسطتك ونحن نعتبرك عضواً في التنظيم وباستطاعتك القول ان حركة ستحصل ذات يوم وان ليبيا ستكون عضداً لمصر في معركتها القومية.

امضيت نحو 40 يوماً في مصر وقال الواحدي انه طلب موعداً وكان الموعد يؤجل باستمرار وهكذا لم التق اي مسؤول مصري. وعندما عدت في الاسبوع الاول من ايار (مايو) سئلت عما فعلته فرويت لهم ما حصل. ارتاح معمر عندما ادرك انه لم يحصل اتصال مباشر مع المصريين. ربما كان هو تولى الاتصال بهم عبر قنوات اخرى. كان مدير المركز الثقافي العربي في بنغازي، وهو مصري، صديقاً لمعمر وقد عمل لاحقاً في الاتحاد الاشتراكي في ليبيا.

قرار التحرك

كان معمر مرتاحاً لانني لم اجر اتصالات مع المصريين. رجعت في الاسبوع الاول من ايار فقالوا هناك اجتماع. عقد الاجتماع في سرت حيث اقيم لاحقاً نصب تذكاري. طرحت فكرة القيام بحركة عسكرية في 21 حزيران وكلفت الذهاب الى طرابلس والاجتماع بالضباط الوحدويين الاحرار في الكتائب المرابطة هناك والبحث في امكان تحرك هذه الوحدات. في هذه المرحلة جرت عملية مناقلات ولم يكن معروفاً اي وحدة ستنتقل من مكانها. ولهذا كان من الصعب ان نبني خطة على اساس بقاء الوحدات في اماكنها. ثم ان الخطة برمتها قد تفشل في حال طرأ تغيير مفاجئ على موقع وحدة مكلفة القيام بدور رئيسي في حركة التغيير. يضاف الى ذلك - وهذا ما تبين لنا لاحقاً - ان الشلحي اقنع القيادة بأن لا داعي لعرض قضية وجود هذا التنظيم على الملك او وزير الدفاع وانه يكفي حالياً اتخاذ اجراءات تحرم هذا التنظيم من القدرة على الحركة فقرروا سحب الآليات من الوحدات وتركوا لها الحد الادنى الذي يحتاج اليه الجيش في عمله اليومي.

الحد الادنى كان كافياً لنا للتحرك، ولكن ظهر اتجاه الى التمهل وارجاء الموعد شهراً او اكثر لاعطاء الجهات التي تحاول ان ترصد خطواتنا أننا لا ننوي التحرك على الاقل في تلك الفترة. كثفنا الاتصالات بالتنظيمات الاخرى


كنوع من التشاور ولتوسيع الاطار المؤيد للتغيير داخل القوات المسلحة. سرنا في عملية التمويه هذه. وفي حدود 22 - 23 تموز (يوليو) دعي الى اجتماع لم احضره انا بسبب مرضي ووجودي في طرابلس. في هذا الاجتماع اتفق على ضرورة القيام بحركة عسكرية في الشهر التالي من دون تحديد موعد دقيق على ان يأتي معمر من بنغازي الى طرابلس ليتشاور معنا وفي ضوء ذلك تحدد الساعة الصفر. وكان الرأي متفقاً على ضرورة قلب النظام في احد ايام اغسطس (آب) قبل ان تتحرك جهة اخرى ونخسر نحن كل شيء.

اقرا ايضا:الجزء الاول من الموضوع:
1_تفاصيل اختطاف ومقتل الامام موسى لصدر