TODAY - August 23, 2010
الناصرية أهم من ايران
سرمد الطائي
اكتشفت امس ان الناصرية اهم من ايران. كنت اريد ان استكمل حديثي السابق عن الموضوعات الاساسية التي يمكن ان تقوم باستعراضها مذكرات لاجئ عراقي في ايران. لكن فجر الاحد لم يكن عاديا في الناصرية احد معاقل كتلة السيد نوري المالكي، فقد جرى اعتقال عشرات المتظاهرين بتهمة "الشغب"، وكأن "نهاية كهربائية" تلوح في الأفق للحكومة المنتهية ولايتها.
الحكومة تصر اذن على قتل المتظاهرين في البصرة واعتقال عشرات منهم في ذي قار، وتريد تجديد ولايتها. حازمة حكومتنا وصارمة فلماذا لا نجدد لها الولاية. صارمة بوجود الكهرباء الوطنية وعدمها، من قال ان ادارة السلطة بحاجة الى كهرباء؟
حتى ساعة كتابة هذا العمود مساء الاحد، لم أقرأ استنكارا من حزب او منظمة لاعتقال 40 متظاهرا في الناصرية. لماذا صمت المنهمكون في الكلام، يوم الاحد؟
نعم.. الناصرية فجر الاحد كانت بتظاهرة كهربائها، اهم من مذكرات اي لاجئ عراقي في ايران. كانت "ذي قار" فجر الاحد اهم من تدخلات "بلاد فارس" نفسها في ملف تشكيل الحكومة المتلكئ.
كل الاطراف الاقليمية تتدخل في تشكيل الحكومة دون جدوى، فلماذا لا تحاول "الاقدار الكهربائية" التعيسة لبلادنا، ان تتدخل هي الاخرى وعلى نحو جاد في رسم نهاية للحكاية المريرة التي سممت ارواحنا منذ شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، يوم انشغلنا باجتثاث المرشحين وفرزهم آليا ويدويا، انتهاء السيناريوهات الثلاثية والثنائية التي اصابت بالدوار حتى ملوك ثمود "العباهلة الاقاويل".
الاحتجاجات حديثة العهد على شعبنا، تجربة للمواطن والدولة. المواطن كشف انه مستعد للتظاهر لكنه يسارع الى الانسحاب، نفسه قصير، يحتاج تدريبا اضافيا كي يتعلم ان فن الاعتراض بحاجة الى مطاولة.
اما مؤسسات الدولة، وهي الحكومة المنتهية ولايتها هنا، فقد برهنت طيلة تجارب "انتفاضة الكهرباء" المتصلة منذ حزيران (يونيو) الماضي، على انها مصابة بالهستيريا ولا تدري ماذا تفعل. حيرتها وخشيتها من اندلاع احتجاج عارم مشروع، يقوم به الصائمون في رمضان قائض بلا كهرباء، حيرة تجعلها تضرب الخطوط الحمراء.
سبق للحكومة ان ضربت في اكبر معاقل مؤيديها البصرة، شرارة الاحتجاج الكهربائي، بقوة. لقد قتلت اثنين من المتظاهرين دون ان نعلم بعد مرور 10 اسابيع على الحادث، من المتسبب بمقتلهما.
اليوم تعتقل الحكومة 40 متظاهرا. غدا لن استغرب حين تعتقل 40 صحفيا، وبعدها ستعتقل 40 سياسيا بمبرر الامن الوطني. ما يقلقني هو صمت الاحزاب و"رجال الدولة" حيال تظاهرات فجر الاحد في الناصرية. اذا حصل الصمت مرة فإنه يمكن ان يحصل مرتين. حين يصمتون اليوم فإنهم سيصمتون غدا. لماذا لا تتمسك الحكومة اذن بطريقتها "المفضلة" في الصرامة؟
تحدثنا الى القادة الكبار. قالوا ان الاوامر جاءت "من اعلى" لتطويق اي احتجاج على الخدمات. كل ازمة مفاوضات تشكيل الحكومة، جرى افراغها على رؤوس المعتقلين الاربعين.
المالكي قلق للغاية من تكرار سيناريو حزيران الماضي. انطلقت تظاهرات البصرة وسرت شرارتها خلال 8 ايام متتالية، في 11 محافظة. كانت النموذج الاول من نوعه، لتظاهرات بمطلب خدمي مشروع، ترتبك الحكومة في التعامل معها. ماذا لو انطلقت تظاهرات استمرت شهرا حتى تنتهي ولاية الحكومة على نحو "كهربائي" منسق مع المفاوضات المتلكئة.
نحن امام قاعدة بسيطة. "ما يجمد في المفاوضات، تجري كهربته ليتحرك". المشكلة في سلطة تبتلع "الطعم الكهربائي". تعتقل وقد تتورط بقتل المزيد من المحتجين، وتنتحر سياسيا. ألف طعم جرى رميه امام المالكي، وألف مرة قام وكتلته بابتلاع الطعم. عجبا لتكرار الخطأ. اخشى اننا امام سيناريو "كهربت الحكومة، فتكهربت" او "نحرتها فانتحرت". الناصرية التي كانت فجر الاحد، معلما على طريق محاولات الشعب لتعلم اساليب الاحتجاج، هي مدخل لسيناريو مخيف. ربما لن يتحقق هذه المرة فيتحقق في مرة مقبلة. ان تقتنع الحكومة بأن قدر البلد ان يبقى بلا كهرباء، وأن قدر المتظاهرين ان يتعرضوا للقمع والسجن، وان قدر ملفات اصلاح قطاع الطاقة، ان تبقى فاسدة وغير شفافة، ومسيسة. قال لنا قائد شرطة ذي قار ان المتظاهرين سيواجهون المحاكمة. لكن القصة تكبر. صباح الأحد تحركت هيئة نزاهة ذي قار وبدأت تتحدث عن "فساد هائل" في اصلاح المحطات. انه سيناريو "كهربة" للسياسة لم يبدأ بعد ولازالت فصوله امامنا. وهو درس لكل رأس وزارة قادم، فالجميع سيقف على منصة الكهرباء دون ان يكون امامه خيار سوى ان "تلقفه القوة".
اهلنا في الماضي كانوا يستخدمون مصطلحات النثر العربي الوسيط، الذي تبلور مطلع القرن. كانوا يسمون الكهرباء "القوة". اما التعرض لصعقها فلم يطلقوا عليه عبارة "النتل" الا مؤخرا. كانوا يقولون "فلان لقفته القوة".
المصطلح القديم يحمل شحنة القرن التاسع عشر، يوم كان الادباء على صلة اكبر باللاهوت والفلسفة. القوة تحمل شحنة فلسفية من "براهين القوة والفعل" لدى الفارابي وذيمقرتيس. انها اكثر فخامة من "النتل".
ما اشتهيه اليوم هو ان نجرب الحكومة مرة اخرى. انتظر الاحتجاج التالي الذي يقوم به صائمون عطاشى بلا كهرباء ودون توضيح من الحكومة للمشكلة المستعصية. الحكومة المسترخية تحت "تكييف لا ينقطع" بحاجة الى ان نجربها كهربائيا، ثالثة ورابعة. كي نرى طريقة تعاملها مع المحتجين اعتقالا او "قتلا" ربما، كي نتأكد هل هي حكومة صالحة لتجديد ولايتها، ام ان المطلوب اليوم هو "معاقبتها" سواء عبر "النتل" او عبر اسلوب أفخم يحيل الى ذيمقرتيس هو "لقف القوة".
اكرر ثانية، لماذا صمتت الاحزاب والحكومة، مساء الاحد عن تظاهرات الناصرية الاكثر خطورة من ايران؟ بماذا انشغلت الاحزاب والحكومة مساء الاحد، عن 40 متظاهرا جرى اعتقالهم، فجر رمضان ديمقراطي وشفاف وقائض بلا كهرباء؟