الرحالية زمان

الرحالية.. ابنةُ الرمل وصوتُ النخيل

تقييم هذا المقال
بواسطة الرحالية زمان, منذ 2 يوم عند 11:45 PM (250 المشاهدات)
في البعيد، حيث تهدأ ضوضاء المدن وتبدأ همسات التاريخ، تمتد الرحالية، كأنها قصيدةٌ كُتبت على جسد الصحراء بالحبر والعرق، وسُقيت بماء العيون وصبر الأمهات. ليست مدينةً فحسب، بل ذاكرةٌ تمشي على الرمال، تحرسها النخيل وتؤنسها السماء.
في المكان الذي ظنه البعض منفى، اختار التاريخ أن يكتب مجده الجديد.
هناك، على حافة الظمأ، ارتفعت أول خيمة لآل علي بيك وسليمان بيك، وقد جاؤوا بما بقي من إرثٍ هاشميٍ معتّق، يبحثون عن ملجأٍ لا يذل، وعن أرض لا تسأل القادم عن نسبه، بل عن عزيمته.
كان الرمل واسعًا، لكنه أصغى لوقع أقدامهم، فاحتضنهم، وسمح لهم أن يحوّلوا الصمت إلى عمرٍ عامر.
الرحالية، التي بُنيت على جمر الانتظار، ما زالت حتى اليوم توقد الذاكرة.
تحت نخيلها، سُطّرت حكاياتٌ لا تعرفها كتب الجغرافيا، ولا تُدوّنها نشرات الأخبار، لكنها حية في المجالس، وفي لهجة الناس، وفي نظرة الجدّات.
عين الزرقاء لم تكن مجرّد نبع ماء، بل كانت نافذةً إلى زمنٍ من البركة.
عين البخيتي تحرسها القصص، وعين جفة تسردها الريح لمن يريد أن يصغي.
لم تكن الرحالية كغيرها من القرى العابرة، بل كانت وما زالت ملتقى القبائل ومهدًا للانصهار الاجتماعي، حيث السادة البيگات، وأحفاد سليمان بيك، والحروب، والبو جادر، والحجاج، وآل شديد، وغيرهم، يتقاسمون الظل والخبز والمصير.
ليس في الرحالية "آخر" و"أوّل"، بل كل بيت فيها هو فرعٌ من الجذر الواحد، وكل اسمٍ فيها له ظلّ على الحائط، وذكرى في القلب.
واليوم، في زمنٍ تتراجع فيه الزراعة وتغيب المياه، لا تنحني الرحالية، بل تتخذ من التحديات فرصةً جديدة كي تُثبت أن النخيل لا يموت واقفًا.
فمن قلب القحط، تخرج التمور كما تخرج المعاني من ضيق القصيدة.
ومن عتمة الخدمات، تولد الإرادة: شابٌ يكمل دراسته، وفتاةٌ تؤسس مشروعًا، وعائلةٌ تُبقي على الأرض حيّة، وإن خذلتها الدولة.
الرحالية ليست قصاصة جغرافية، ولا عنوانًا بريديًا.
هي مكانٌ نادر، تنتمي إليه الأرواح قبل الأجساد.
هي درسٌ في كيف يُمكن للحياة أن تُولد من الحصى، وللأمل أن يُزهر ولو فوق الصخر.
وفي النهاية، من لم يعرف الرحالية، لم يعرف الصحراء حين تبتسم، ولم يعرف كيف يكون الوفاء في هيئة مدينة.
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال