نيويورك 28 كانون الثاني 1920.
عزيزتي الآنسة مي.. تريدين أن تعلمي بالضبط معنى ندامتي وما وراء طلبي المغفرة منك من الأسرار النفسية. وإليك بالضبط ما كان وسيكون وراء تلك الندامة وتلك المعاني وتلك الأسرار وتلك النفسيات.. لم أندم على كتابة تلك الرسالة المعروفة لديك “بالنشيد الغنائي”- ولن أندم.. لم أندم على أصغر حرف فيها ولا على أكبر نقطة فيها- ولن أندم..لم أكن في ضلال لذلك لم أر داعياً للاهتداء.. وكيف يا ترى أندم على أمر موجود الآن في نفسي مثلما كان موجوداً إذ ذاك ..
نيويورك 3 تشرين الثاني 1920
يا صديقتي يا مي.. لم يكن سكوتي في الآونة الأخيرة سوى الحيرة والالتباس ولقد جلست مرات بين حيرتي والتباسي في هذا لأحدثك وأعاتبك ولكنني لم أجد ما أقوله لك. لم أجد ما أقوله يا مي لأنني كنت أشعر بأنك لم تتركي سبيلً للكلام. ولأنني أحسست بأنك تريدين قطع تلك السلك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح و روح. جلست مرات في هذه الغرفة ونظرت طويلاً إلى وجهك ولكنني لم أتلفظ بكلمة. أما أنت فكنت تحدقين بي وتهزين رأسك وتبتسمين ابتسامة من يجد لذة في تلبك وتشويش جليسه. من سكوتي ومخجول من ألمي ومخجول من الكبرياء التي جعلتني أضع أصابعي على شفتي وأصمت. كنت بالأمس أحسبك “المذنبة” أما اليوم وقد رأيت حلمك وعطفك يتعانقان كملكين فقد صرت أحسب نفسي المذنب.. ولكن اسمعي يا صديقتي فأخبرك عن أسباب سكوتي وألمي: تقولين لي “يجب عليك أن تكون سعيداً مقتنعاً لأنك فنّي وشاعر” ولكن يا مي أنا لست بفني ولا بشاعر. قد صرفت أيامي وليالي مصوراً وكاتباً ولكن أنا لست في أيامي ولياليّ. أنا ضباب يا مي. أنا ضباب وفي الضباب وحدتي وفيه وحشتي وانفرادي وفيه جوعي وعطشي. ومصيبتي أن هذا الضباب وهو حقيقي, يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائل يقول لست وحدك, نحن اثنان, أنا أعرف من أنت اخبريني, اخبريني يا صديقتي, أيوجد في هذا العالم من يقدر ويريد أن يقول لي أنا ضباب آخر أيها الضباب, فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية. تعال نسير بين الأشجار وفوقها, تعال نغمر الصخور المتعالية.. أنت يا مي صوت صارخ في البرية. أنت صوت رباني والأصوات الربانية تبقى متموجة في الغلاف الأثيري حتى نهاية الزمن ..
جبران خليل جبران
رسالة من مي إلى جبران
12 تموز 1924
جبران ..
كيف أنت؟ وكيف حالك مع الفن؟ أما أنا فمتعبة الجسم والنفس…
أشتاق إليك كثيرًا. أشتاق إلى كلماتك، إلى صمتك، إلى تأملك، إلى تلك الطمأنينة التي كانت تتسرّب إليّ من رسائلك.
لماذا لا تكتب؟ أراك تغيب طويلًا، حتى أخال أنني ما عرفت جبران قط، وأنه كان حلمًا جميلًا مرّ بي، ثم رحل
رسالة من مي إلى جبران – 1925
أفكر بك في الليل والنهار
أفكر فيك حين أكتب، حين أقرأ، حين أكون بين الناس وحين أكون وحدي…
جبران،
هل تصدّق أنك ساكن في أعماقي؟
وأنك أصبحت جزءًا من كياني لا يغادرني؟
ما أغرب هذا الحب الذي لا يريد شيئًا، لا لقاء، لا وعود، لا مطالب
فقط أن تبقى هناك .. وتكتب لي
جبران،
إن كانت الحياة قد حرمتنا اللقاء
فليكن الحرف هو بيتنا
والورقة وطننا
والروح بريدنا
لست أطلب شيئًا
فقط اكتب لي
فإن سكوتك موحش
وقلبي يرتجف من الغياب
من مي إلى جبران 1930
هل تدري ما معنى أن أحبك؟
أن أراك في كتبي، في مرايا غرفتي، في عيون المارة
في كل ما أكتبه وما لا أكتبه.
لقد أصبح حبك دمي… فهل أقدر أن أعيش بلا دم؟
مي زيادة ..
9 شباط 1923
الفكر يا جبران لا يولد من فراغ،
بل من ألم، من وحدة، من تساؤل عميق.
وأنا، كل فكرة أكتبها لك،
هي دمعة فكر… وابتسامة وجع
فهل ما زلت تقرأني كما تقرأ نفسك؟
3 تشرين الثاني 1927
جبران،
ما أغربك حين تغضب، وما أجمل الغضب حين يكون منك.
تُعاتبني لأنني لم أكتب إليك!
وهل الكتابة إليك شيء أقرره؟ إنها تحدث، مثل المطر، مثل الحنين، مثل الأنين الذي يسبق الدمع.
لا تغضب، فحتى سكوتي عنك، هو نوعٌ آخر من الحديث.
مي زيادة
كتبت إليكِ اليوم، وكل فكري فيكِ...
لا تسأليني ماذا أكتب، ولا لماذا أكتب.
لأنني كلما هممت بالكتابة، شعرت كأنني أبعث إليكِ شيئًا من روحي، شيئًا من نفسي...
وفي كل مرة أكتب فيها إليكِ، أرتاح، كأنني صلّيت.
من رسالة جبران إلى مي ..
9 آذار 1919