معمر فارح: جربة.. السّحر والاصالة



مرة أخرى استيقظ على رحلة جديدة. نافذتي الوحيدة المفتوحة على ما يُطلق عليه ربما بشكل خاطئ، “الخارج”. لكن، هل تونس حقًّا تمثل الخارج؟ بضعة كيلومترات لمحة من التّاريخ، حدود لا تأبه بها ريّاح الصّحراء… وها أنا هنا على الجانب الآخر على هذه الأرض الشقيقة التي تتحدّث لغتي وتشارك أطباقي وتعبيرات وجهي وصمتي. ليست غربة بل هي امتدادٌ لنفسي. ولكن الآن، يجب أن أواصل سيري نحو الجزيرة السّاحرة. رحلة ستستغرق نحو ثماني ساعات.
جربة. كل عام أبحر نحو هذه الجزيرة هذه البقعة الهادئة في العالم التي يجب أن أزورها كما أزور صديقة قديمة وفية. إن لم أذهب إليها أشعر وكأنّ شيئًا ينقصني وكأنّ عدم التوازن يتسلّل إلى نفسي. أصدقائي يفضّلون السواحل المزدحمة في الحمّامات والفنادق اللاّمعة في سوسة وشُرُفات ڨمرت أو بطاقات البريد من بنزرت. يبحثون عن الراحة وضجيج الحياة، أحيانًا عن وهم حداثة مستوردة. أمّا أنا، فأبحث عن الأصالة والسّحر، وأجدهما دائمًا في هذه الجزيرة التي كان القدماء يسمّونها جزيرة اللّوتس. أرسل هوميروس أوديسيوس (Ulysse) إليها، تذكرون، في أوديسا التي لا تنتهي. هناك، وصل مع رفاقه، الذين تذوّقوا ثمار اللّوتس وفقدوا على الفور طعم العودة. هذا هو سر هذه الجزيرة: إنها تسحر القلوب. توقف الزمن، وتهمس لك بأن لا شيء في عجلة، وأن كل شيء يمكنه الانتظار. أتفهّم البحّارة اليونانيّين، الذين تشتّت أفكارهم وسط هذا الهدوء الذي يخدّر الآلام. أنا أيضًا، كلّما وطأت قدماي هذه الأرض، أنسى سباق العالم. أبدو رجلًا بسيطًا، رجلًا حرًّا. السّماء هنا أكثر قربًا، أكثر حميميّة. البحر يتحدّث، والضّوء يلتصق بالجدران البيضاء كما لو أنه لا يريد الرّحيل. نتناول الصمت كما نتناول خبزًا دافئًا، وكل حجر هنا يبدو وكأنه قد خرج من بيت شعر هوميروس.
مطر خفيف، خجول، مهذّبٌ، ينزل على الجزيرة. هو يوم المغادرة. اركب العبّارة أشعر بطعم الفراق المالح.. دموع خفيّة، تسقط من سماء متواطئة، ترافق آخر نظرة، بينما تبتعد الجزيرة في هيجان البحر. جربة تبكي بصمت، بطريقتها الفريدة: خجولة، رقيقة، لكنها تحمل في طيّاتها فرحًا غامضًا. وكأنها تقول: “عد بسرعة يا صديقي.”
وداعا جزيرتي.. مازلت اسمع خطوات أوديسيوس، وغناء اللّوتوفيجيين، ودقّات قلبي مصاحبة أنفاس الريّاح. لن يزول شيء ما دمتُ أداوم على الكتابة والحلم.