سيرة الإمام زين العابدين (ع): من الولادة إلى الشهادة
صفحات من نور
النسب
هو الإمام المعصوم الرابع علي ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. يُعرف بين المحدثين بـ "ابن الخيرتين"، فأبوه هو الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه من بنات ملوك الفرس. وقد جاء في "ربيع الأبرار" للزمخشري: "إن لله من عباده خيرتين، فخيرته من العرب بنو هاشم، ومن العجم فارس".
أمه
اتفقت الروايات على أن أمه من أشراف الفرس، ولكنها اختلفت في تاريخ الاستيلاء عليها من قبل المسلمين. هي: شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسرى. وقد قال فيها أبو الأسود الدؤلي:
"وإن غلاماً بين كسرى وهاشمِ لأكرم من نيطت عليه التمائمُ"
ولادته
جاء في بعض الروايات أن ولادة علي بن الحسين (عليهما السلام) كانت يوم الجمعة، ويقال يوم الخميس، بين الخامس والعاشر من شهر شعبان، سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين من الهجرة.
كنيته
أبو محمد، ويُكنى بـ (أبي الحسن) أيضاً.
ألقابه
زين العابدين، السجاد، ذو الثفنات، البكاء، والعابد. ومن أشهرها "زين العابدين" وبه كان يُعرف كما يُعرف باسمه. جاء في المرويات عن الزهري أنه كان يقول: "ينادي منادٍ يوم القيامة: ليقم سيد العابدين في زمانه، فيقوم علي بن الحسين (ع)". ولقب بـ "ذي الثفنات" لأن موضع السجود منه كانت كثفنة البعير من كثرة السجود عليه.
أما عن تسميته بـ "البكاء"، يروي الرواة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال: "بكى علي بن الحسين على أبيه عشرين سنة، ما وضع خلالها بين يديه طعام إلا بكى". وقال له بعض مواليه: "جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف أن تكون من الهالكين". فقال: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع أبي وإخوتي وبني عمومتي إلا خنقتني العبرة".
وقد روى الرواة كثيراً عن حزنه وبكائه، فكان كلما قدم له طعام وشراب يقول: "كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعاً، وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشاناً". وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد يردد عليهم تلك المأساة ويقص عليهم من أخبارها. وأحياناً يخرج إلى السوق فإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول: "هل سقيتها الماء؟" فيقول له: "نعم يا بن رسول الله، إنا لا نذبح حيواناً حتى نسقيه ولو قليلاً من الماء". فيبكي عند ذلك ويقول: "لقد ذبح أبو عبد الله عطشاناً". كان يحاول في أكثر مواقفه هذه أن يشحن النفوس ويهيئها للثورة على الظالمين الذين استباحوا محارم الله واستهزأوا بالقيم الإنسانية والدعوة الإسلامية من أجل عروشهم وأطماعهم، وقد أعطت هذه المواقف المحقة ثمارها وهيأت الجماهير الإسلامية في الحجاز والعراق وغيرها للثورة.
إمامته
روى الكليني بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال: "إن الحسين بن علي (عليهما السلام) لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (ع) فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) مبطوناً معهم لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين (ع) ثم صار ذلك الكتاب إلينا يا زياد!". قال: قلت: "ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟" قال: "فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا، والله إن فيه الحدود حتى إن فيه أرش الخدش". كما روى المجلسي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: "سألت الصادق جعفر بن محمد (ع) عن خاتم الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى من صار، وذكرت له إني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ". قال (ع): "ليس كما قالوا، إن الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (ع) وجعل خاتمه في إصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليهما السلام)، وفعله الحسن بالحسين (عليهما السلام)، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي بعد أبيه، ومنه صار إلي فهو عندي، وإلي لألبسه كل جمعة وأصلي به". قال محمد بن مسلم: "فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي فلما فرغ من الصلاة مد إلي يده فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا الله عدة للقاء الله". فقال: "هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي".
أولاده
روى الشيخ المفيد أن أولاد علي زين العابدين (ع) خمسة عشر بين ذكر وأنثى: أحد عشر ذكراً وأربع بنات. أكبرهم سناً وقدراً الإمام محمد بن علي الملقب بـ (الباقر). أمه فاطمة بنت الإمام الحسن (ع) أولدت له أربعة هم: الحسن والحسين ومحمد الباقر وعبد الله وبه كانت تُكنى.
ومما يبدو أن أكبر أولاده محمد الباقر ولد له سنة سبع وخمسين هجرية، وكان له من العمر عندما استشهد جده الحسين (ع) في كربلاء ثلاث سنوات.
وله من الذكور أيضاً:
- زيد وعمر وأمهما أم ولد.
- الحسين الأصغر.
- عبد الرحمن وسليمان أمهما أم ولد.
- محمد الأصغر وعلي الأصغر وكان أصغر أولاده الذكور.
ومن الإناث:
- خديجة
- فاطمة
- عليّة
- أم كلثوم أمهن أم ولد.
أما زيد بن علي الشهيد فقد نشأ في بيت الإمام زين العابدين حفيد الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم. هذا البيت الذي يعد مهد العلم والحكمة. تعلم فيه القرآن الكريم فحفظه واتجه إلى الحديث الشريف فتلقاه عن أبيه حتى أصبح بعد فترة واسع العلم والمعرفة. وبعد أن تركه والده في حدود الرابعة عشرة من عمره تعهده أخوه الإمام الباقر فزوده بكل ما يحتاج من الفقه والحديث والتفسير حتى أصبح من مشاهير علماء عصره ومرجعاً معروفاً لرواد العلم والحديث والحكمة والمعرفة. سافر إلى البصرة عدة مرات وناظر علماءها ومنهم واصل بن عطاء رأس المعتزلة يوم ذاك، ناظره في أصول العقائد.
وقد طلبه هشام بن عبد الملك إلى الشام، وكان مجلسه حافلاً بأعيان أهل الشام وخاصته، فقال له: "بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة". فأجابه زيد بن علي على الفور: "ويلك يا هشام أمكان أمي يضعني؟ والله لقد كان إسحاق ابن حرة وإسماعيل ابن أمة ولم يمنعه ذلك من أن بعثه الله نبياً وجعل من نسله سيد العرب والعجم محمد بن عبد الله، إن الأمهات يا هشام لا يقعدن بالرجال عن الغايات. اتق الله في ذرية نبيك". فغضب هشام وقال: "ومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟" فرد عليه زيد بقوله: "إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ولا يصغر دون أن يوصي بتقوى الله".
ومضى زيد في طريقه إلى الكوفة ثم إلى البصرة وأرسل رسائله ورسله إلى المدائن والموصل وغيرهما وانتشرت دعوته في سواد العراق ومدنه. ولما بلغ أمره هشام بن عبد الملك أرسل إلى واليه على العراق يوسف بن عمر يأمره بمضايقة زيد ومطاردته، وحدثت معركة أصيب فيها زيد فدفنه أصحابه في مجرى ماء حتى لا يُصلب أو يُحرق، لكن ذلك لم يفده. أحدث قتله استياءً عاماً في جميع المناطق الإسلامية وتجدد البكاء على أهل البيت ولف الحزن كل من يحبهم ويسير على خطاهم.
وممن تحدثت عنهم كتب الأنساب من أولاد الإمام علي زين العابدين:
- عبد الله بن علي الملقب بـ (الباهر): كان فاضلاً فقيهاً روى عن آبائه وأجداده أحاديث كثيرة. روى بعضهم قال: "سألت أبا جعفر الباقر: أي إخوانك أحب إليك وأفضل؟" فقال: "أما عبد الله فيدي التي أبطش بها. وأما عمر فبصري الذي أبصر به. وأما زيد فلساني الذي أنطق به، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً". وكان عبد الله يلي صدقات رسول الله وصدقات أمير المؤمنين.
- عمر: فقد كان ورعاً جليلاً وسخياً كريماً تولى صدقات جده (ع) واشترط على كل من يبتاع ثمارها أن يثلم في الحائط ثلمة لكي تأكل منها المارة ولا يرد أحداً عنها، ويروى عنه أنه قال: "المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به ولا تقولوا فينا ما ليس بنا إن يعذبنا الله فبذنوبنا وإن يرحمنا فبرحمته وفضله علينا".
- الحسين بن علي (ع): فإنه كان فاضلاً ورعاً يروي عن أبيه علي بن الحسين وعمته فاطمة بنت الحسين (ع) التي أودعها الحسين عند خروجه من المدينة إلى كربلاء وصيته، كما روى عن أخيه أبي جعفر الباقر. وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام).
والإمام محمد بن علي زين العابدين المعروف بـ (الباقر) عاش سبعة وخمسين عاماً، أدرك فيها جده الحسين (ع) ولزمه نحواً من أربع سنوات، وعاش مع أبيه السجاد بعد جده خمساً وثلاثين سنة. وفي طفولته كانت المحنة الكبرى التي حلت بأهل البيت في كربلاء واستشهد فيها جده الحسين ومن معه من إخوته وبني عمه وأصحابه (ع) جميعاً، وتجرع هو مرارتها وشاهد بعدها جميع الرزايا والمصائب التي توالت على أهل بيته من قبل الحكام الطغاة الذين تنكروا للقيم والأخلاق وجميع المبادئ الإسلامية وعاثوا فساداً في البلاد ولم يتركوا رذيلة واحدة إلا مارسوها بشتى أشكالها ومظاهرها، في قصورهم الفخمة الأنيقة ونواديهم القذرة الفاجرة.
في هذا الجو المشحون بالظلم والقهر والفساد، وجد الإمام الباقر (ع) وقد علمته الأحداث الماضية مع آبائه وأجداده خذلان الناس لهم في ساعات المحنة أن ينصرف عن السياسة ومشاكل السياسيين ومؤامراتهم إلى خدمة الإسلام ورعاية شؤون المسلمين عن طريق الدفاع عن أصول الدين الحنيف ونشر تعاليمه وأحكامه فناظر الفرق التي انحرفت في تفكيرها واتجاهاتها عن الخط الإسلامي الصحيح كمسألة الجبر والإرجاء التي روّجها الحكام لمصالحهم الشخصية. لقد فرضت عليه مصلحة الإسلام العليا أن ينصرف إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية فالتف حوله العديد من العلماء والكثير من طلاب العلم والحديث من الشيعة وغيرهم.
كان عالماً عابداً تقياً ثقة عند جميع المسلمين، روى عنه أبو حنيفة وغيره من أئمة المذاهب المعروفة.
جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: "لقد أخبرني رسول الله بأني سأبقى حتى أرى رجلاً من ولده أشبه الناس به وأمرني أن أقرأه السلام واسمه محمد يبقر العلم بقراً". ويقول الرواة إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله، وفي آخر أيامه كان يصيح في مسجد رسول الله: "يا باقر علم آل بيت محمد". فلما رآه وقع عليه يقبل يديه وأبلغه تحية رسول الله (ص).
وقال فيه محمد بن طلحة القرشي الشافعي: "محمد بن علي الباقر هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورفعه، صفا قلبه وزكا عمله وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه وعمرت بطاعة الله أوقاته ورسخت في مقام التقوى قدمه، فالمناقب تسبق إليه والصفات تشرف به". له ألقاب ثلاثة: باقر العلم، والشاكر، والهادي، وأشهرها الباقر وسمي كذلك لتبقره العلم وتوسعه فيه.
إخوته
كان للإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أخوان: علي الأكبر، وعبد الله الرضيع.
- وقد قتل علي الأكبر مع أبيه في كربلاء، ولا بقية له، وأمه كانت آمنة بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وأمها بنت أبي سفيان بن حرب.
- أما عبد الله الرضيع فأمه الرباب بنت امرئ القيس وقد قتل أيضاً مع أبيه وأخيه يوم الطف. وقد حمله الحسين (ع) نحو جماعة عمر بن سعد قائلاً لهم: "لم يبق لي سوى هذا الطفل الرضيع فاسقوه، فقد جف اللبن من ثدي أمه". فاختلف الجند فيما بينهم، منهم من قال: "اسقوه"، ومنهم من قال: "لا تسقوه". فقال ابن سعد لـ حرملة بن كاهل الأسدي: "اقطع نزاع القوم". فرماه حرملة بسهم في نحره فذبحه، فبسط الحسين سيد الشهداء كفه تحت نحر الطفل، فلما امتلأت دماً رمى به نحو السماء وقال: "رب هون علي ما نزل بي إنه بعين الله. اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح". ثم عاد به إلى المخيم وقيل طرحه بين القتلى من أهل بيته.
أخواته
وكان له أختان أيضاً: سكينة وفاطمة.
- سكينة أمها الرباب بنت امرئ القيس، ويكفي في جلالتها كلام الإمام الحسين (عليه السلام) مع ابن أخيه الحسن بن الإمام الحسن (عليه السلام) لما جاء إليه خاطباً إحدى ابنتيه: "أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله، فلا تصلح لرجل". كانت وفاتها في المدينة سنة 117 هـ.
- أما أختها فاطمة فأمها أم إسحاق بن طلحة بن عبيد الله. ويكفي في فضلها كلام الإمام الحسين (عليه السلام) مع ابن أخيه الحسن بن الإمام الحسن: "أختار لك فاطمة فهي أكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار". وفاتها في المدينة سنة 117 هـ عن أكثر من سبعين سنة.
إلى جنة المأوى (الاستشهاد)
لقد أجهد الإمام نفسه إجهاداً كبيراً وحملها من أمره رهقاً من كثرة عبادته وعظيم طاعته. أجمع المؤرخون أنه (ع) قد قضى معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله حتى وصل بعبادته وتهجده وتخضعه إلى درجة الفناء الكامل في الله.
في الوقت نفسه كانت تلاحقه ذكريات كربلاء المؤلمة، وما جرى لأبيه سيد الشهداء (ع) ولأهل البيت من النكبات الكبيرة والخطوب المريرة. وهل بإمكانه أن ينسى كلما نظر إلى عماته وأخواته فيتذكر فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة، ومنادي القوم ينادي: "أحرقوا البيوت". كل هذه الذكريات الأليمة تثير أشد الحزن في نفسه فيحزن ويذرف الدموع الحارة.
لقد بكى على أبيه عشرين سنة حتى قال له مولاه: "إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين". فقال (ع): "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة".
ومن الطبيعي أن لذلك كله أثراً مباشراً على صحته التي أذابتها هذه المآسي القاسية. فكان كلما تقدم سن الإمام ازداد ضعفاً وذبولاً.
اغتياله بالسم
احتل الإمام زين العابدين قلوب الناس وعواطفهم فتحدث الناس بإعجاب عن علمه وفقهه وسائر ملكاته، وكان السعيد من تشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه، لذلك نراه قد تمتع بشعبية هائلة في عصره.
وقد شق ذلك على الأمويين وأقضى مضاجعهم، وكان من أكبر الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك. روى الزهري أنه قال: "لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا".
وقد صمم هذا الخبيث المجرم على اغتيال الإمام (ع) بأي طريقة، ولما آل إليه الملك والسلطان بعث سماً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسه للإمام، ونفذ عامله ذلك. وقد تفاعل السم في بدن الإمام، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها، وبقي على فراش الموت عدة أيام يشكو بلواه إلى الله تعالى، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان، وقد تزاحم الناس لتفقده وعيادته، وهو (عليه السلام) يحمد الله ويثني عليه أفضل الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية الظالمين الطغاة الذين كان همهم الدنيا الفانية ومباهجها البراقة الزائفة.
وصيته لولده الإمام الباقر
عهد الإمام زين العابدين إلى ولده محمد الباقر (عليهما السلام) بالإمامة، كما عهد إليه أيضاً بهذه الوصية القيمة فقال له: "يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة فقد قال لي: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله".
وأوصاه أيضاً بناقته، فقال له: "إني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط، فإذا أنفقت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإن رسول الله (ص) قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة، وبارك في نسله". ونفذ الإمام الوصية.
والوصية الأخيرة قال فيها (ع): "أن يتولى بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتى يواريه في مقره الأخير".
إلى جوار جده (ع)
اشتد المرض على الإمام (ع) وثقل حاله من تفاعل السم في جسده الطاهر، وأخذ يعاني آلاماً مرهقة، فأخبر الإمام أهله في غلس الليل أنه سوف ينتقل إلى الفردوس الأعلى، وأغمي عليه ثلاث مرات، فلما أفاق قرأ سورة (الفاتحة) وسورة (إنا فتحنا) ثم قال (ع): "الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين".
وانتقلت روحه الطاهرة إلى خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله، وألطافه تعالى. لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى خالقها بعد كفاح مرير وسمت بألطاف الله وتحيته تاركة إضاءات منيرة على مفارق كل الدروب في هذه الدنيا بعلومها ومعارفها وعبادتها وتجردها من كل نزعات الميول الشخصية.
لقد عمل الإمام (ع) طول حياته في سبيل الله فأحب في الله وأبغض في الله وجاهد من أجل رفع كلمة الله بكل ما أوتي من قوة مباركة وعطاء خير.
تجهيزه (عليه السلام)
نفذ الإمام الباقر الوصية (ع) بتجهيز جثمان أبيه، فغسل جسده الطاهر ورأى مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالى، ونظر إلى عاتقه فكأنه مبارك الإبل أيضاً من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويوزعه على الفقراء والمحرومين. وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه وصلى عليه الصلاة المكتوبة.
تشييعه (عليه السلام)
جرى للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيراً، فقد شيعه جميع الناس من قريب وبعيد، التفت الجماهير حول النعش الكريم جازعين في البكاء والعويل بكل خشوع وإحساس عميق بالخسارة الكبرى. لقد فقدوا بموته عبقرية كبرى وخيراً عميماً، فقدوا تلك الروحانية الشفافة التي لم يخلق لها مثيل. ازدحم أهالي يثرب على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى بحمله، وهذا أحد الفقهاء السبعة في المدينة سعيد بن المسيب لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه. وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولى أشجع، فأجابه سعيد: "أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح". وما نراه أنه اعتذار مهلهل ذلك أن حضور تشييع جنازة الإمام (عليه السلام) الذي يحمل هدى الأنبياء وكرامة الأوصياء من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله تعالى.
في المقر الأخير
وصل الجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد وسط هالة من التكبير والتحميد، فحفروا له قبراً بجوار قبر عمه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (ص) والذي استشهد بالطريقة نفسها على يد معاوية بن أبي سفيان، صاحب القول المأثور "إن لله جنوداً من عسل".
وأنزل الإمام الباقر جثمان أبيه إلى المقر الأخير وأنزل معه كنوز العلم والبر والتقوى، وروحانية أجداده المتقين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
وبعد الفراغ من دفن الإمام زين العابدين (ع) هرع الناس نحو الإمام الباقر يعزونه ويشاركونه في لوعته وأساه، والإمام مع إخوته وسائر بني هاشم يشكرون الجموع الغفيرة المعزية على مشاركتهم في الخطب الجلل والمصاب العظيم الذي حل بهم. إنا لله وإنا إليه راجعون. (وَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
المصادر
الطبرسي، الفضل بن الحسن. (د.ت.). إعلام الورى بأعلام الهدى. (ص. 256).
الشافعي، محمد بن طلحة. (د.ت.). مطالب المسؤول في مناقب آل الرسول. (ص. 203).
المفيد، محمد بن محمد بن النعمان. (د.ت.). الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد. (ص. 237، 244).
الكليني، محمد بن يعقوب. (د.ت.). الكافي. (ج. 1، ص. 241 وما بعدها).
المجلسي، محمد باقر. (د.ت.). بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. (ج. 11، ص. 6).
ابن الصباغ، علي بن محمد. (د.ت.). الفصول المهمة في معرفة الأئمة. (قارن مع الإرشاد، ص. 244).
ابن سعد، محمد بن سعد. (د.ت.). الطبقات الكبرى. (ج. غير مذكور، ص. غير مذكور).
عاملي، جعفر مرتضى. (د.ت.). سيرة الأئمة الاثني عشر. (ص. 198).
الشبلنجي، مؤمن بن حسن. (د.ت.). إسعاف الراغبين في سيرة الأئمة الطاهرين. (ص. 21).
كاشف الغطاء، محمد حسين. (د.ت.). أدب الطف أو شعراء الحسين (ع). (ج. 1، ص. 164).
المقرم، عبد الرزاق الموسوي. (د.ت.). زين العابدين. (ص. 363). (نقلاً عن الخصال، ج. 1، ص. 131).
القرشي، باقر شريف. (د.ت.). حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام). (ج. 1، ص. 51، 54).
الهيثمي، أحمد بن حجر. (د.ت.). الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة. (ص. 53).
القرشي، باقر شريف. (د.ت.). زين العابدين (عليه السلام). (ص. 421، 422). (نقلاً عن روضة الكافي).
القرشي، باقر شريف. (د.ت.). حياة زين العابدين. (ص. 423).