القاسم.. زهرة الكاظم في أرض الغربة
كم من العظماء لم ينصفهم الزمان ولم ينالوا حظهم في العيش بأمان، فعاشوا غرباء وماتوا غرباء ومسؤوليتنا أن نحفظ تاريخهم ونسبر بطون الكتب لنظهر مقاماتهم ونغوص في أعماقهم ونستلهم من حياتهم دروسًا وعِبَر.
القاسم بن الإمام موسى الكاظم عليهما السلام هو أحد أبناء الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، سابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وأخو الإمام علي بن موسى الرضا (ع).
كان الليل في المدينة المنورة هادئًا، غير أنّ القلوب في دار الإمام موسى الكاظم (ع) لم تكن تعرف السكون.
كان القاسم (ع) فتىً من نور، طاهر السريرة، كثير الصمت، طويل السجود، لا يُرى إلّا وهو بين مصحف أو سُجادة وفي عينيه سكينة آبائه، وفي خُطاه جلال جده أمير المؤمنين (ع).
كَبُر القاسم (ع)، وكبر معه همّ آل البيت (عليهم السلام)، فالدولة العباسية كانت كالسيف المسلول على رقاب العلويين والهاشميين، تترصّد أنفاسهم وتطارد آثارهم ولم يكن القاسم صاحب دعوة سياسية، بل صاحب قلبٍ متصل بالسماء، لكنّه لم ينجُ من عين الجواسيس، ولم يُعفَ من أذى العباسيين، فكان لا بد من الرحيل.
• اسمه ونسبه: هو القاسم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام). لا يُعرف له لقب شائع كالذي اشتهر به بعض إخوته، لكنّه اشتهر بصفة ”الصلاح والعبادة والتُقى“.
• مكانته بين إخوته: اشتهر القاسم (ع) بالعلم والعبادة والورع، وكان محبوبًا بين الناس، ويُعد من الصلحاء من آل البيت (عليهم السلام) وقد نُقل عن أخيه الإمام الرضا (ع) قوله عن القاسم: ”من زار القاسم بن موسى، فله الجنة“، مما يدل على مكانته الرفيعة في نظر الإمام المعصوم.
• صفاته: كان القاسم (ع) صاحب خلق رفيع، وتقوى، وسكينة، وهيبة، حيث عُرف بكثرة العبادة والصيام والصمت.
• كراماته ومقامه: تُنقل عنه كرامات عديدة، ويُذكر أنّه كان محل محبة وتقدير من أهل المنطقة التي أقام فيها بعد هجرته إلى العراق حتى قبل أن يعرفوا نسبه، وقبره موجود اليوم في محافظة بابل في العراق، في ناحية القاسم، وسُمّيت المنطقة باسمه، ومقامه مزار معروف ومقدّس، يقصده الناس من مختلف المناطق للزيارة والتوسل والدعاء.
• هجرته إلى العراق: بعد اشتداد الحصار والملاحقة من الدولة العباسية على العلويين والهاشميين، خرج القاسم متخفياً من المدينة المنورة في جنح الليل، لا يملك إلا عباءته ونَسَبًا لا يقوى على البوح به. ترك المدينة، وعيونه على قبر جده المصطفى (ص)، وهمس: ”يا رسول الله، خرجتُ لا لأني أكره المدينة، ولكن لأحفظ دم من بقي من ولدك“، فاتجه شرقًا نحو العراق، تقلّب به الطريق حتى وصل إلى أرض ”سورى“، قرية وادعة في جنوب العراق، غافلة عن المآسي، فجلس في ظل نخلة وأخفى اسمه، عاش بين الناس بوجه الغريب وصمت العارف، لكنّ ملامحه كانت تنطق بالحسين (ع)، وسُكونه يروي حكاية الزهراء (عليها السلام)، حيث عاش هناك متخفياً باسم مستعار «الغريب» وكان يخفي نسبه الشريف.
كان أهل القرية يرونه يصوم النهار ويقوم الليل، يعين الفقير، ويُجالس الطفل، ويُعلّم الصغير دعاء الكهف ويُحبّبهم في القرآن حتى إذا مرض أحدهم، سهر القاسم على راحته، وإن جاع أحدهم، اقتسم لقيماته معه.
وذات يوم، عرفه أحد العارفين ممن رأوا أباه موسى الكاظم (ع) في المدينة المنوّرة، فناداه باكياً: ”أنت القاسم بن موسى! أنت من آل محمد؟! لِمَ تُخفي نورك؟“، فبكى القاسم وقال: ”إنّما خرجت فراراً بديني، لا طلباً للدنيا ولكنّي عبد من عبيد الله، خادم لكل مَنْ أحبّ أهل البيت“، وما هي إلّا أيام، حتى نُقل جسده الطاهر إلى قبر صغير في طرف القرية، لكنّ قبره ما لبث أن أصبح مزاراً، تنبعث منه رائحة الطهر والسكينة وصار اسمه على لسان العارفين، وعُرف في السماء قبل أن يُعرف في الأرض.
القاسم بن الإمام موسى الكاظم عليهما السلام هو نموذج من أبناء أهل البيت الذين عاشوا المظلومية بصمت وورع، وهو من أولياء الله الصالحين الذين عاشوا في ظل الملاحقة والظلم، لكنّهم ثبتوا على الحق والدين، وكان لهم أثر روحي ومعنوي كبير في المجتمعات التي عاشوا فيها.
إنك إن زرت قبر القاسم بن موسى عليهما السلام، تشعر وكأنّك تسمع صوته يهمس: ”كنتُ غريبًا في الدنيا، فأكرمني الله بحب عباده… فلا تنسوني من الدعاء، فقلبي ما زال هناك… بين قبر أمي فاطمة وأبي الكاظم، وفي كل قلبٍ يحبهم“، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا.