اختار الخلود فصنع التاريخ
في حياة كل إنسان محطاتٌ تكشف جوهره، ومواقف تُظهر معدنه، ومنعطفاتٌ تضعه أمام خيارٍ مصيري: إمّا أن يبقى كما هو، وإمّا أن يسمو لما ينبغي أن يكون.
فمن الناس من يكتفي بأن يكون جزءًا من المشهد، يمضي كما يمضي الجميع، دون أثر ولا هوية، ومنهم من يُضفي على المشهد معنى، ويمنحه روحًا مختلفة، ويترك فيه بصمة لا تُمحى، فيبقى حاضرًا في ذاكرة الزمن وضمير الإنسانية.
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الحياة العابرة المستهلكة.. والحياة الهادفة المثمرة، بين حياة تُعدّ بالأيام وحياة تُقاس بالأثر.
شخصيات لا يُخلّدها المنصب
وفي كل أمة، تظهر شخصيات لا يُخلّدها المنصب ولا القوة، ولا كثرة الأتباع، بل يُخلّدها صدق الموقف وثبات المبادئ والقيم، ونبل الرسالة، ومن أعظم هذه الشخصيات: الإمام الحسين (ع).
فهو لم يخرج طلبًا للترف ولا إثارةً للفوضى ولا طمعًا في سلطة، ولا بحثًا عن مجد، ولا كرد فعل غاضب أو.. كما هو شأن أصحاب المصالح أو أصحاب الأهواء، بل كان قرارًا مبنيًا على منهجٍ نبويٍّ أصيلٍ متصل بسيرة النبي الأعظم محمد (ص)، والإمام علي (ع)، مما أعطاه الشرعية الدينية والتاريخية، ولذا قال بوضوح حين خروجه: ”إني لم أخرج أشرًا، ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن أبي طالب (ع)، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين“.
كلمات رسم من خلالها معالم خروجه، وحدد بوضوح أنه ليس خروج طامعٍ، ولا حركة عابرة، ولا انتفاضة عاطفية، بل نهضة إصلاحية كبرى تهدف إلى إحياء القيم والمبادئ التي انحرفت عن سيرة جدّه المصطفى (ص) وأبيه المرتضى (ع).
لو لم يخرج الإمام الحسين (ع)
ماذا لو لم يخرج الإمام الحسين (ع)، ولم يبايع يزيد؟
وبالرجوع إلى آراء وتحليلات كبار المفكرين المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية، بالإضافة إلى الفلاسفة والإنسانيين يمكننا أن نقول:
لو لم يخرج أو بايع الإمام الحسين (ع) يزيد، لكانت النتائج كارثية على المستوى الديني والأمة، والتاريخ، وذلك لأن الإمام الحسين (ع) لم يكن مجرد شخصية عادية تبحث عن مجد ذاتي أو سلطة دنيوية، بل هو مشروعٌ متكاملًا للحق، وامتدادًا حيًّا للنبوة، وتجسيدًا عمليًا لقيم العدالة والحرية، وغيابه عن المواجهة كان سيؤدي إلى شرعنة الظلم باسم الدين، وسقوط آخر حصن من حصون القيم في الأمة، وضياع هوية أهل البيت (عليهم السلام) وخطهم الرسالي الأصيل.
ما الذي يبقى بعد الرحيل؟
يُروى أن أستاذًا جامعيًا مختصًا في الفلسفة وتاريخ الأديان، زار العراق ضمن وفدٍ ثقافي، ودُعي ذات مرة مساءً من شهر محرم الحرام لحضور موكب عزاء حسيني، ولم يكن يعرف شيئًا عن كربلاء، ولا عن الإمام الحسين (ع)، لكنه حضر بدافع الفضول الأكاديمي. ورغم أنه لم يفهم اللغة لشدة المشهد حيث ”رجال ونساء يبكون بحرقة، أطفال يسيرون حفاة، وجوهٌ يعلوها الحزن والولاء..“. فسأل مترجمه بدهشة: من هو هذا الرجل الذي يبكون عليه بهذا الشكل؟
فقال المترجم: إنه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام حفيد النبي محمد (ص)، ثار ضد الفساد، ورفض مبايعة الحاكم في زمانه قبل ألف وأربعمائة عام، فاستشهد وبقي رمزًا للحق والكرامة.
تأمل الألماني المشهد طويلًا ثم قال: ”لقد قرأت عن ثورات كثيرة، لكنني لم أر ثائرًا أبكى عليه الناس لقرون، بل استُشهد ليبعث في الناس شيئًا لا يموت“.
هكذا يتضح: أن من يعيش للمصلحة قد يُذكر يومًا، ولكن من يموت من أجل المبدأ... يُذكر للأبد. ولذلك فقد أنصفه مفكرو العالم، وقادته، وأحرار الإنسانية على مر العصور، فقال المهاتما غاندي، الذي يُعتبر من أبرز الرموز في التاريخ الحديث، وقد عُرف بلقب ”أبو الأمة الهندية“: ”تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر“. وقال الزعيم المسيحي اللبناني أنطون سعادة، وهو المفكر والقائد السياسي اللبناني المشهور بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي: ”كربلاء ليست معركة في التاريخ بل موقف يتجدد في وجه كل فاسد“. وقال أحد الفلاسفة الغربيين: ”لم يُقتل الحسين.. بل قُتل الجبن، والذل والركون للباطل“. وكل هذه الشهادات وغيرها ليست سوى نماذج من اعترافات صدرت من ضمائر حيّة رأت في الإمام الحسين (ع) رمزًا أبديًا للحق والحرية، وعنوانًا خالدًا للمبدأ الذي لا يُقهر.
ما رأيت إلا جميلًا
أن ترى كل شيء انتهى أمامها: استشهاد الإخوة والأبناء، احتراق المخيم، تعليق الرؤوس على الرماح، ترك الأجساد الطاهرة بلا دفن، صراخ الأيتام والأرامل. وحينما يُوجه لها السؤال عن: ”كيف رأيتِ صُنع الله بأخيكِ الحسين (ع)؟“ فترد شامخة: ”ما رأيتُ إلا جميلًا“. هنا يقف العقل مذهولًا: كيف يمكن وصف المشهد المأساوي كذبح الأحبة وسبي النساء، وترك الأجساد الطاهرة بلا دفن.. بأنه ”جميل“؟ والجواب:
إن هذه العبارة ”ما رأيت إلا جميلًا“ لم تكن مجرد رد فعل عاطفي أو محاولة لصبر لحظي، بل كانت رؤية إيمانية عميقة، ركّزت على السبب النبيل، والرسالة العظيمة، والنتائج الخالدة التي جاءت من ورائها هذه التضحية.
فهي لم تر فقط أجسادًا مقطعة أو خيامًا محترقة، بل رأت أن أخاها الحسين (ع) استُشهد من أجل أن يعيش الناس أحرارًا، ومن أجل أن لا يُمحى الدين، ومن أجل أن تبقى كلمة الحق عالية وخالدة لا تموت.
وهي رسالة لنا بأن لا ننظر إلى الأحداث أو المحن من الزاوية العاطفية المؤلمة وفقط، فالمشهد في كربلاء الإمام الحسين (ع) لم يكن مجرد فاجعة بشرية، بل كان فصلًا من فصول الخلود الأخلاقي والنهضوي، وهي في ذات الوقت رسالة إلى الأجيال التي ستستنير بدم الإمام الحسين (ع)، وإلى الضمائر التي ستستيقظ بصوت زينب (عليها السلام).
فما أجمل أن نرتقي بفهمنا للأحداث، فنرى فيها الرسالة لا فقط العاطفة، والقيمة لا فقط الكارثة، والمبدأ لا فقط المحنة، فكما أن الإمام الحسين (ع) اختار طريق الخلود لا طريق الصمت فإن زينب (عليها السلام) اختارت لغة الإيمان لا لغة الانكسار، وأن كربلاء علمتنا أن ليس كل ما يُبكي مأساة فبعض الدموع تُمهّد لميلاد أمة.
كربلاء: مدرسة الخلود
كربلاء لم تكن مأساة فقط، بل كانت ميلادًا جديدًا للضمير الإنساني، ولم تكن صرخة ألم فحسب، بل هي رسالة إلى الأجيال أن لا ينظرون إلى الأحداث من زاوية الألم فقط، بل من زاوية الغاية والمعنى.
الغاية: هي الهدف الأعمق الذي يُراد تحقيقه من الفعل أو الموقف، حتى لو لم يتحقق الظاهر من النصر أو النجاح. مثل: غاية الإمام الحسين (ع) لم تكن النصر العسكري، بل كان إحياء الضمير وتصحيح مسار الأمة.
والمعنى: وهو القيمة الأخلاقية أو الروحية التي تُولد من الألم أو التضحية، وتُلهم الأجيال بعد ذلك، مثل كربلاء ليس فقط في الدماء، بل في أنها صارت رمزًا للحرية والكرامة ورفض الظلم.
وأخيرًا...
يمكننا أن نقول: إن الإمام الحسين (ع) لم يكن باحثًا عن موت، بل صانعًا لحياة لا تموت، اختار أن لا يصمت لأن الصمت أمام الباطل خيانة، وأن السكوت عن الظلم يُشرعن الطغيان، وأن زينب (عليها السلام) حين قالت ”ما رأيت إلا جميلًا“ لم تكن تُنكر الألم، بل كانت ترى ما وراءه معنى يخلّد وهدف يسمو ورسالة تُحيي أمة، وأن كربلاء لم تكن مأساة وفقط بل كانت درسًا خالدًا في الثبات والكرامة، وصوت الضمير حين يعلو على الخوف والمصلحة.
وهكذا يبقى الإمام الحسين (ع) رمزًا للحق، وزينب صوتًا للوعي، وكربلاء طريقًا لكل من أراد أن يُخلّد اسمه في سجل الأحرار