قصة من قلب الطفولة، حين يُخطّ النجاح بالأصابع لا بالدرجات.
في الصف الأول ابتدائي، لم أكن ذاك التلميذ المجتهد الذي يحمل الحقيبة بشغف ويسابق الوقت لكرسيه في الصف.
كنت طالبًا بنصف ولاء... للمدرسة، والنصف الآخر موزّع بين كرة القدم، وطرق أبواب الجيران والهرب منها وكأنها رياضة وطنية!
البلد كان يعيش ارتباكًا، والنظام التربوي أكثر ارتباكًا منه، والوجوه في المدرسة متجهمة إلا وجه زميلي حامد... ذاك الصديق البائس الذي كان يشاركني المقعد والضرب.
وكانت هنالك شخصية أسطورية تُدعى ست سعدية.
امرأة لا تعرف الرحمة، تؤمن أن تربية الأطفال تبدأ من الخد الأيسر وتنتهي بالخد الأيمن، وتحب أن تترك ختمها الخماسي على وجوهنا بعد كل “زلة تعليمية”.
كانت تقول لي:
"اذا الشمس تشرق من المغرب، انت تنجح من الأول ابتدائي!"
وانتهت السنة، وكانت نبوءتها تتحقق...
راسب في كل المواد. أنا؟ عادي.
حامد؟ شريكي بالضرب والمصير.
ضحكنا ، وقررنا أن نعود العام القادم بروح جديدة.
لكن في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد، حدث ما لم يكن في الحسبان...
أثناء الاصطفاف، كان طلاب الصف الثاني واقفين في صفهم، وبما أني كنت "متضامنًا معهم"قررت الوقوف معهم أيضًا، بلا أي ورقة تثبت نجاحي، فقط بقوة الشخصية وانعدام الخجل
.
مضى اليوم الأول بسلام، وسلمونا كتب الصف الثاني.
بدأت الدراسة.
كنت طالبًا غير شرعي في نظام تعليمي هش، مدعوم دعائيًا من الأهل الذين كانوا يغمرونني بالرُقى والآيات المباركة كل صباح خوفًا من انكشاف أمري(روح يمه يحرسك علي، تكول داخل جبهة) .
إلى أن ظهر حامد...
رمقني بنظرة شبهة وقال:
"ها حسن؟ شلون صرت صف ثاني واحنه اثنيناتنا راسبين؟"
هنا تفعلت عندي نظرية المؤامرة (خاف يكول لست سعدية واشبع طن كتل) ورديت عليه ببرود:
"شوف خل اكلك شغلة... اني جنت ناجح بس ما منتبه للنتيجة"
وفعلًا،رغم ذالك، بدأت ست سعدية عملية التحري.
كانت تتذكر وجهي فقط، لا اسمي.
جاءت إلى الصف وقالت:
"أكو ولد راسب وجاي يداوم بالصف الثاني، كل الطلاب قيام خل اشوفكم"
كنت جالسًا في آخر الصف، يدي تتعرّق، نظراتها تمشط الرؤوس.
وصلت قريب... خطوة واحدة فقط!
(دخلت جوه الرحلة تحسبا)
لكن الأقدار أرسلت لي النجدة: دخلت المعلمة الثانية، وانحرجت منها ست سعدية وسحبت نفسها...
وتوقفت التحقيقات.
من يومها، أصبحت أدرس بضمير.
مشيت من الأول الابتدائي للجامعة بدون رسوب، وكأن تلك "الخدعة الصغيرة" كانت هي الباب الذي فتح لي طريقًا طويلًا مليئًا بالجد والاجتهاد.
واليوم، كلما أتذكر ست سعدية، أضحك...
مو لأن نجوت من عقوبتها، بل لأني أدين لذلك الختم الخماسي...
هو أول جرس أيقظني من سبات الطفولة، وجعلني أخشى الرسوب كي لا انال ذالك الكف مرة أخرى.