خاتم الأنبياء (ص) الرحمة المهداة
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: الآية 2].
الآية الكريمة تتحدث عن النور المحمدي الذي أضاء أرجاء العالم بمبعث نبي الرحمة (ص)، وكيف كان حدثًا لتغيير جذري في أعماق نفوس هذه الأمة ونقلها من عالم الجهل والضلال إلى عالم النور والمعرفة والنقاء، من خلال الجهود الحثيثة التي بذلها رسول الله (ص) مع أمته والتي تمثلت في الأبعاد الأخلاقية والإيمانيّة المنبثقة من شخصيته العظيمة، فكانت ثمرة تلك الجهود صياغة متكاملة وتبديلا شاملًا لجميع جوانب المجتمع متمثلًا بقوله (ص): «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، راسما بشخصيّته الفذّة أبعادًا إنسانية، وهي:
1 - البعد الإيماني المعرفي: حيث كان المجتمع الجاهلي يعيش حالة من التيه والضلال من عبادة الأصنام وفعل المنكرات التي لا تعد ولا تحصى من شرب الخمور والفجور، وإذا بالنور المحمدي يصدح بالرسالة السماوية والأحكام الإلهية متمثلًا بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: الآية 159]. فكان لأخلاقه الحميدة وصبره وحكمته الدور الفعال في قبول الدعوة، والرسالة المحمدية وإن عارضها الكثير في بداياتها إلا أن حكمة رسول الله ولين منطقه ومواقفه الرفيعة معهم كان دافعًا للكثير في الدخول في الدين الإسلامي والتحرر من العادات الجاهلية والخروج من غياهب جب الظلام والجهل إلى دائرة النور الإلهي.
2 - البعد النفسي والأخلاقي: الناس قبل الإسلام كانوا يعيشون حالة من الاضطراب المعرفي والسلوكي والأخلاقي، والبعض يحاول أن يجيب على الكثير من التساؤلات حول ماهية وجودهم، ولماذا خلقوا؟ ولماذا هذا الوضع من التزعزع والقلق الذي يحيطهم؟
فيأتي رسول الله صادحًا بأهم غرض من وجودهم على هذه الدنيا وهو عبادة الله وعمارة الأرض بالخير والطاعة لله عز وجل، مبيّنًا لهم الهدف من وجودهم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: الآية 56]. ومتى ما كانت عبادتهم صحيحة وواعية وعن معرفة كانت سببًا في تهذيب أخلاقهم وسلوكياتهم واكتسابهم التقوى، فالصلاة ليست مجرد أفعال وأقوال يرددها، وإنما هي تطبيق عملي لكل حرف ينطقه فيها وفعل يقوم به، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى? عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت -45]. وغيرها من العبادات إذا طبقها حسب أهدافها الحقيقية صلحت سريرته وصلح شأنه وأصبح عبدًا لله عز وجل مبتعدًا عن عبادة الشهوات وملذات الدنيا وبعيدًا عن خطط الشيطان الرجيم.
3 - البعد الاجتماعي: وهنا لو ألقينا نظرة فاحصة على المجتمع قبل الرسالة المحمدية وبعدها، وعقدنا مقارنة لوقفنا وقفة إجلال وإعظام لرسول الله (ص)، فكيف استطاع نقل ذلك المجتمع من مجتمع متناحر متنافر يسود فيه عالم المال والقوة والتفاضل حتى باللون والقبيلة إلى مجتمع متحضّر دينيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا، مبتعدًا عن كل ما يشين الفطرة الإنسانية حيث طبق مبدأ الرسالة العادلة، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: الآية 13]. فلا فرق بين أحد إلا بتقوى الله عز وجل، فميزان التفاضل هو التقوى والعبادة الحقّة لله عز وجل، كما يقول رسول الله (ص): «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». بهذا المبدأ وضع رسول الله ميزان العدالة الإلهية وبنى مجتمعًا جديدًا انسلخ منه جميع الصفات المذمومة والأفعال القبيحة من عصبية وتفاضل بالأموال والأولاد والتعيير بإنجاب البنات واحتكار الأموال والأرزاق وكل ما يشين فطرته، وأصبح كل سلوك يقوم به وفعل هو جزء من إيمانه الحقيقي المنضبط والمتولد من المعرفة الحقّة بالله عز وجل.
وبهذه البعثة المباركة لرسول الله (ص) التي كانت بمثابة إحياء وبعث لمن كان ميتًا ومنقبرًا تحت ركام الجهل، وبعث لعالم النور والمعرفة، كل ذلك بفضل رسول الله (ص) وصبره وحكمته وأخلاقه وجمال منطقه.