فأنقذكم الله بأبي محمد (ص)
نبارك لكم مولد خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله:
«وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياء *** وفمُ الزمان تبسّمٌ وثناء».
قالت سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام):
«وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ… فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله».
في تراكمات الماضي الجاهلي، حيث سحقتهم الصراعات الدامية والجسيمة التي هيمنت على القبائل، وتغلغل الحقد في النفوس، وتوارثت الأجيال البغض والكراهية، وفي هذا الجو المثخن بتكاليف باهظة في الأموال والأعراض والأرواح، بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله لإنقاذ هذه القبائل والأمم من أوثان الجاهلية العمياء.
في فجر السابع عشر من ربيع الأول، أشرقت الأرض بمولده صلّى الله عليه وآله وسلم. لم يكن مولده حدثًا عابرًا، بل كان ولادة الرحمة كما قال الله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
إنه الرحمة التي تتسع لكل قلب، حتى قلوب من عادوه وآذوه، فلم يدعُ عليهم، بل قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وضعت ولادته صلّى الله عليه وآله نقطة التحول الجذرية في حاضر الأمة ومستقبلها على الصعيدين الروحي والمادي. فكانت هذه الولادة تحمل الكثير من الأسرار المثيرة، وخبأت الأقدار بين طياتها الكثير من التحولات والمنعطفات الهائلة، وكذلك أوجدت أسباب الانطلاق باتجاه السمو لهذه الأمة والإنسانية على حد سواء.
ففي اليوم الذي خمدت فيه نيران الضلال، والتي لم تخمد منذ ألف عام، اتّقد مشعل العقيدة الحقة ليبقى نورها يشع إلى يوم القيامة، وتوهّج قبس الهداية الأوحد، وسيبقى ساطعًا إلى الأبد.
في ذكرى مولده السعيد، مولد الرحمة والإنسانية، فلنكن رحماء مع أنفسنا ومع الآخرين، ولنغرس اللطف في كل تعامل، حيث الرحمة قوة وليست ضعفًا.
وفي ذكرى مولده الأغر، لنملأ قلوبنا محبة وسلامًا، ولنسأل أنفسنا: كيف نكون رحمة لمن حولنا؟
لنكن قناديل رحمة كما أرادنا المصطفى صلوات الله عليه وآله وسلم، تضيء الطريق وتزرع في الأرواح الطمأنينة.
اللهم اجعلنا من أهل الرحمة كما كان حبيبنا وسيدنا رحمة للعالمين، وامْنَحْنا بنور ذكراه سلامًا لا يزول، واملأ قلوبنا بمحبة المصطفى المختار.
في سيرته العطرة صلوات الله عليه وآله، كتب الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» وهو يكتب عن هذه الشخصية المتشبعة بالمبادئ العظيمة والأخلاق، عن السيرة النبوية العطرة والأيام المحمدية الخالدة، ومكارم الأخلاق العظيمة والرفيعة التي يصعب أن تتجمع في شخص واحد، والحب الذي كان ينتشر منه ويتناثر على كل الدنيا من حوله.
حينما قال عن النبي محمد (ص)، «لم يرَ العالَم حتى اليوم رجلًا استطاع أن يحوّل العقول والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد إلا محمدًا، ولو لم يكن قد بدأ حياته صادقًا أمينًا ما صدّقه أقرب الناس إليه، خاصة بعد أن جاءته السماء بالرسالة لنشرها على بني قومه أصحاب العقول والأفئدة الصلبة، لكن السماء التي اختارته بعناية لِكَيْ يَحمل الرسالة كانت تؤهّله صغيرًا، فشبَّ متأملًا محبًا للطبيعة ميّالًا للعزلة لينفرد بنفسه».
حبيبي، يا سيد الرسل، أيها الحبيب الذي ارتوت قلوب العالمين بحبك، لأنك حقًا جعلت سقف الإنسانية عاليًا، واقترن اسمك بعد اسم الله ونحن ننطق بالشهادة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
رسالتك العظيمة يا سيدي يا حبيبي يا رسول الله كانت ولا زالت وستبقى عظيمة وخالدة في كتب التاريخ، سطّرها العلماء والفلاسفة حتى تتمكن جميع الأجيال، المسلمة وغير المسلمة، من التعرف على هذا الشخص العظيم، الذي أسس المبادئ العادلة الإنسانية والرحمة الواسعة، حتى ظهور القائم من ولدك الحجة المنتظر (عج).
سيرتك العطرة يا سيدي يا رسول الله مليئة بأشياء رائعة، بل هي الحل الأنسب للعديد من المشاكل المجتمعية والنفسية السائدة اليوم في هذا العالم. نحن في هذا العالم نفتقدُ الخطابَ الديني الروحي الحي الذي طغت عليه المادة وساد فيه الطمع وعمّ فيه الفساد والظلم، وافتقد العدل والضمير الإنساني المنصف.
فواجبنا نحن أن نكون رسلًا لرسالتك الأخلاقية السامية، والتي قد ركّز عليها الله سبحانه وتعالى في الكثير من آياته الشريفة، التي ترسم لنا صورة مشرقة صادقة لأخلاق النبي وفضائله. ولعل أبلغها وصفًا وأدقها تصويرًا:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
الرسالة التي بلغت من الكمال والعظمة والجمال والشمولية في الأخلاق، والصدق، والحق، والعدل.
إن لرسالتك العظيمة إلينا أن نحيا بين الناس بِمَا حُيِّيتَ بِهِ، وأنت من منطق إنساني تعلمنا عظمة الأخلاق والإنسانية التي تضمنت مشروع رسالتك الإلهية حينما نزل عليك الوحي. والتي فيها الحالة الاجتماعية القبلية كانت في الحضيض من الضعف والتخلف، وكان الجهل والخرافات مسيطرة عليها، فَبُعِثْتَ إِلَيْهَا لِتُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، لتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ومن الشقاء إلى السعادة.
إننا يا سيدي ونحن نحيي ذكرى مولدك الشريف نمر بمواقف وأحداث، فانتقل الاختلاف إلى خلاف، ومن خلاف تحوّل إلى جدال، ثم إلى ضرب وقتل وتشويه لهذه الأخلاق التي حملت شخصيتك العظيمة.
تحوّلنا إلى غابة يأكل فيها بعضنا بعضًا، ويتعدى فيها القوي على الضعيف، ويتعالى الغني على الفقير.
فقدنا الاحترام بعضنا لبعض، وافتقدنا الأخلاق النبيلة التي تؤسس النجاح والقوة والإنسانية لهذه الأمة التي بُعِثْتَ إِلَيْهَا لِتُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. لم يعد صاحب الرأي والمعتقد يحترم من يختلف معه، بل صار المختلفون في خلافٍ وعداء.
سيدي يا رسول الله، من يطّلع على سيرتك العطرة سيرى كيف احترمت كل من اختلفت معهم، واختلفوا معك فكريًا وعقائديًا ودينيًا، بل فرضت عليهم احترامك وأخلاقك وشخصيتك.
سيدي يا رسول الله، في ذكرى مولدك الطاهر، أجدد لك التحية والسلام والشهادة أنك رسول الله وحبيبه وصفيه وخليله، أرسله الله بشيرًا ونذيرًا بالهدى ودين الحق، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة.
فكم نحن الآن بحاجة إلى ما جاء به محمد من الهدى العظيم، والخلق الرفيع، والصراط المستقيم.
السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين.