خارطة طريق نبوية
ورد عن رسول الله (ص): «عليكم بمكارم الأخلاق، فإن الله بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده» [أمالي الطوسي ص 478 ].
إن مكارم الأخلاق ليست ترفًا ولا زينة شكلية بل هي الأساس المتين لبناء الإنسان والمجتمع، ولذلك قال رسول الله (ص): ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، فهل نعي هذه الغاية وينعكس ذلك على تربية أنفسنا وأبناءنا عليها أم نكتفي بترديد الحديث دون أن نحياه ونجسّده؟!
الجواب عند كل واحدٍ منا ولكن الأمل معقود على من يصدّق أن النبوة ليست ماضٍ يُحكى بل نَهج يُحتذى على أرض الواقع.
بهذا الحديث النبوي الشريف، يضع النبي الأعظم (ص) حجر الزاوية في البناء الأخلاقي للإنسان ويكشف عن الغاية الكبرى من بعثته المباركة، فالرسالة الإسلامية في جوهرها ليست تشريعات جامدة ولا شعائر معزولة عن السلوك، وإنما هي مشروع إلهي لتهذيب النفس وإعادة صياغة الإنسان من الداخل عبر قيم الرحمة والصفح والكرم والصلة.
في صدر الحديث، يتحدث النبي (ص) بصيغة الأمر: ”عليكم بمكارم الأخلاق“. وهذه العبارة ليست دعوة هامشية ولا نصيحة اعتيادية، بل هي توجيه نبوي ملزم يضع مكارم الأخلاق في مرتبة الواجب السلوكي، ويمنحها صفة الإلزام الديني، ثم يُبيّن العلّة من ذلك بقوله: ”فإن الله بعثني بها“. إنها ليست اختيارًا فرديًا أو ميزة خاصة لبعض الصالحين، بل هي غاية بعثة النبي نفسه، ومقصد الوحي، ولبّ الرسالة.

فالرسول لم يُبعث ليُكثّر أعداد الموحّدين فحسب، وإن كانت تلك من الدين ولكن البعثة في جوهرها كانت لاستنقاذ الإنسان من سُوء الخُلُق ورفعه إلى أفق الفضيلة، وهذه الحقيقة تتجلّى في هذا الحديث أكثر من أي مكان آخر.
العفو عن الظالم: يأتي هذا الخُلق كخرقٍ للمعتاد وكسلوك فوق بشري لا يصدر إلا من قلب طاهر ونفس كبيرة، فالعفو ليس ضعفًا بل هو تعبير عن القوّة النابعة من السيطرة على النفس وضبط الغضب واحتواء الألم دون الرغبة في الانتقام.
إن من يعفو عن ظالمه لا يُنكر الظلم ولا يبرّره وإنما يختار السمو عليه، وهذا الخُلق هو تجلٍّ من تجليات الرحمة التي بُعث بها رسول الله (ص).
الإعطاء لمن حرمك: ويُعطي من حرمه"، فكم قادرٌ منّا على العطاء لمن منعه، أو الكرم لمن بخِل عليه؟
طبيعة النفس البشرية تميل إلى المعاملة بالمثل فإن أُعطيتَ أعطيت وإن حُرمتَ منعت، ولكن الأخلاق النبوية تدعونا إلى كسر هذا النمط والخروج من ضيق الذات إلى سعة الروح.
فالإعطاء لمن حرمك هو انتصار للإنسان على نفسه الأمارة بالسوء، إنه نفيٌ للأنانية وتأكيدٌ على أن الكرم لا يُقاس بما يُعطى، بل بما يتجاوز الحواجز النفسية التي تمنعنا من العطاء، وهو أيضًا دعوة إلى تطهير القلب من رواسب الضغينة وتحرير النفس من عبودية ردّ الفعل.
صلة القاطع: ويصل من قطعه"، من منا لم يشعر بمرارة القطيعة يومًا أو انكسر قلبه من صدّ قريب أو جفاء صديق؟
ولكن السمو لمن يملك شجاعة الوصل بعد القطيعة، فإن العودة بالصلة إلى من قطعها ليست سهلة فهي فعلٌ يتطلب نُضجًا نفسيا وعمقًا روحيًا وقدرة على تجاوز الألم
.
عيادة من لا يعودك: وأن يعود من لا يعودُه"، هذا هو الخُلق الذي يُتمّم الصورة ويختم سلسلة مكارم الأخلاق التي ذكرها النبي في هذا الحديث، فعيادة المريض ليست فقط واجبًا إنسانيًا بل هي تعبير عن مشاعر التضامن والرحمة، فأن تعود من لا يعودك فذلك تجاوز لردّ الجميل، فمن يزور مريضًا لا يزوره إنما يُعلن بفعله أن ما يحركه هو ضميره لا مصلحته، وهكذا تتحرر العلاقات من حسابات الأخذ والرد وتصبح قائمة على الحب والاحترام.