هند رجب وعائلتها قتلتهم دبابات الاحتلال في حي تل الهوا بغزة في يناير/كانون الثاني 2024 (رويترز)
كان عمرها 6 سنوات، ولا تزال تثير الذعر والارتباك في صفوف الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يستطيع كتم صوتها كما فعل بأصوات أكثر من 18 ألف طفل استشهدوا في قطاع غزة.
بقي صوتها يزلزل القلوب ويدمي الأرواح ويرسل الدمع مدرارا.
لقد صفق لصوتها في مهرجان البندقية الدولي، أقدم مهرجان سينمائي في العالم، نجوم هوليود في مقدمتهم خواكين فينيكس وروني مارا، وقد بقيت الأكف 24 دقيقة تصفق وسالت الدموع كماء منهمر من عيون صناع فيلم "صوت هند رجب" والجمهور المحتشد في الصالة الرئيسية.
وجه جميل يشع بالبراءة وسمرة طبعتها شمس غزة بكثير من النور كأنها كوكب دري، الطفلة الفلسطينية هند رجب التي قتلت بدم بارد مع عائلتها وعدد من المسعفين على يد جيش الاحتلال، بعد أن كانت الناجية الوحيدة من نيران الدبابات الإسرائيلية في سيارة هربت فيها مع 6 من أقاربها في يناير/كانون الثاني 2024 خلال محاولتهم النزوح إلى مكان آمن بمدينة غزة، وتمت محاصرتهم بعدد من الدبابات التي استهدفتهم بصورة مباشرة.
هند تستغيث
الطفلة هند التي اتصلت بوالدتها مستغيثة ومستنجدة بها لكي تأتي وتأخذها من داخل السيارة التي كانت عرضة لإطلاق نار من رشاشات الدبابات الإسرائيلية. ثم استلم الهلال الأحمر الفلسطيني اتصالا من الطفلة ليان حمادة، قريبة هند والمرافقة لها، تطلب المساعدة.
وذكرت ليان حمادة أن دبابة إسرائيلية قامت بإطلاق رصاص على سيارتهم بمنطقة "دوار المالية" في حي تل الهوا (جنوب غربي مدينة غزة). وخلال المكالمة، سُمع صوت صراخ ليان وصوت كثيف لإطلاق الرصاص، ثم توقفت المكالمة فجأة.
وكان الهلال الأحمر الفلسطيني نشر تسجيلا صوتيا، يسمع فيه صوت ليان وهي تحاول إخبار خدمات الإسعاف بما يدور حولها، وتقول "عمو قاعدين بِطُخوا (يطلقون الرصاص) علينا، الدبابة جنبنا، إحنا بالسيارة وجنبنا الدبابة" وبعد ذلك سمع صوت إطلاق وابل من الرصاص في وقت كانت ليان تصرخ، لينقطع الاتصال معها.
وبعد ذلك، حاول أفراد الهلال الأحمر إعادة الاتصال، وتبين أن هند ما زالت على قيد الحياة، واستمر أهلها في التواصل معها محاولين تهدئتها بأن سيارة الإسعاف في طريقها لإجلائها من الموقع.
وفي مهمة مستعجلة، وبدت مستحيلة تسابق الوقت، توجه طاقم من الهلال الأحمر بتنسيق مع الارتباط الفلسطيني من أجل إنقاذها، لكن الاتصال مع الطاقم انقطع بعد ساعات من انطلاقه لإنقاذ هند، ومر 12 يوما.
وفي فبراير/شباط وبعد انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة التي كانت تتوقف فيها سيارة هند وأقاربها، عثر على جثمانها وأفراد عائلتها داخل مركبة بمحيط "دوار المالية" في حي تل الهوا، حيث استشهد على الفور أفراد عائلتها، كما عثر على بعد أمتار على فريق الإسعاف الذي هب لنجدتها.
ووفق تحقيق لصحيفة "واشنطن بوست" استعانت خلاله بصور الأقمار الصناعية، وجدت 4 مركبات عسكرية إسرائيلية على بعد أقل من 300 متر من موقع الطفلة وفي مرمى رؤيتها.
ووفقا لذات التحقيق فإن الذخيرة التي أصابت سيارة العائلة وسيارة الإسعاف تلائم نوعية يستخدمها الجيش الإسرائيلي، ووفقا لمختصين وخبراء أسلحة استعانت بهم الصحيفة، فإن تحليل المكالمة الهاتفية يظهر أن سيارة العائلة تعرضت لنحو 72 طلقة خلال 6 ثوان في وقت اتصال الطفلة.
وأوضح تقرير لمنظمة "فورينزيك أركيتكشر" -نشر في أبريل/نيسان 2024- أن سيارة العائلة تعرضت لإطلاق نار من قبل دبابة إسرائيلية، وقد تمكن من في الدبابة من رؤية السيارة ومن فيها بما في ذلك هند.
كذلك أشار التقرير إلى أن طاقم الهلال الأحمر الذي هرع لتخليص هند تعرض للإصابة هو أيضا من دبابة إسرائيلية.
أيقونة عالمية
وأصبحت هند رجب الشهيدة رمزا تجاوز حدود غزة والمنطقة العربية لتصبح أيقونة عالمية يتحدث عنها العالم كنموذج يؤشر للعقلية التي تحرك جنود الاحتلال في قطاع غزة، العقلية المختلة التي أبقت طفلة حبيسة الجوع والخوف وإطلاق النار المتواصل من جنود اختبؤوا خلف دبابتهم وخوذهم العسكرية أمام طفلة تستغيث بوالدتها التي احترق قلبها عليها، وبعد ذلك احترق قلب العالم عليها.
ولم يكن هذا هو المشهد الختامي لما جرى في حي تل الهوا فقد بقيت صرخات وتوسلات هند حاضرة في ذهن العالم، ولم تستطع جميع الروايات الإسرائيلية المختلقة حول هذه الجريمة كتم صوتها فقد بقيت روحها تطارد جنود وضباط الاحتلال في كل مكان عبر مؤسسة تحمل اسمها.
ففي ذكرى مولد هند السابع، أعلنت مؤسسة "هند رجب" -المعنية بملاحقة جنود الجيش الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية والمحلية- تقديم شكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تتهم فيها الضابط الإسرائيلي المقدم بني أهارون قائد اللواء المدرع 401 في الجيش بالمسؤولية المباشرة عن قتل هند وعائلتها وطاقم الإسعاف الذي حاول إنقاذها، وقد تم التعرف على الضباط الميدانيين المسؤولين عن العملية وأدوارهم بالكامل.
وباتت مؤسسة "هند رجب" الحقوقية تثير الذعر والارتباك في صفوف جيش الاحتلال الذي ينشر جنوده على منصات التواصل فيديوهات وصورا توثق مشاركتهم في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وقد ولدت وأعلنت مؤسسة "هند رجب" رسميا في أكتوبر/تشرين الأول 2024 واتخذت من العاصمة البلجيكية مقرا.
ومنذ تأسيسها ركزت المؤسسة على الملاحقة القانونية لمرتكبي الجرائم والمتواطئين معهم، وعملت على توثيق عدد من الانتهاكات الإسرائيلية في فيديوهات منشورة على مواقع التواصل، وحددت هوية كثير من الجنود الإسرائيليين الذين نشروا أدلة على جرائمهم بأنفسهم.
ويتخوف الإسرائيليون من أن الملاحقات القضائية لن تطال الجنود، بل قد تطال ضباطا وسياسيين.
وتقول التقارير إن مؤسسة "هند رجب" جمعت معلومات عن أكثر من ألف جندي إسرائيلي من مزدوجي الجنسية شاركوا في حرب غزة، وتم تقديم طلبات اعتقال ضدهم في عدة دول، وعمل جهاز الموساد على تخليص العديد من الجنود والضباط وتهريبهم من هذه الدول.
سياسات متطرفة
مؤسسة "هند رجب" كشفت للعالم بأن ممارسات جنود الاحتلال ليست فقط انحرافا وسلوكا فرديا عدوانيا وإنما تعبر عن نهج الجيش وسياسات الحكومة العنصرية المتطرفة.
"إنها صفة للجيش بهذه الحرب، وليست خطأ أو انحرافا عن القواعد" بحسب المحامي شنير كلاين المختص في حقوق الإنسان، في مقال له بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بعنوان "الجنود المطلوبون في الخارج ليسوا أعشابا ضارة بل الجيش بأسره".
ورفضت وزيرة العدل البلجيكية آنيليس فيرليندن تقريرا إسرائيليا تشهيريا ضد مؤسسة "هند رجب" قدمه سام فان روي النائب عن حزب "فلامز بيلانغ" اليميني المتطرف والمؤيد القوي لدولة الاحتلال، وبعد تحقيقات دقيقة أجرتها أجهزة أمن الدولة "ثبت أن التقرير لا أساس له من الصحة" بحسب القضاء البلجيكي.
وسيبقى صوت هند رجب يلاحق القتلة 100 عام قادمة، وسيكتب الكثير عن هذا المشهد المروع لقتل طفلة بقيت مذعورة ووحيدة وخائفة لأيام.
وستبقى الدموع تسيل من العيون كأرض اهتزت وربت وأنبتت.