الملصق الدعائي لفيلم "الليل يأتي دائما" (Night Always Comes)
لا تصلح السينما في كل الأحوال أداةً للتعرف إلى حياة البشر، فأحيانا ما تلتقط الأفلام قصصا محددة بعينها، أو تُغفل شرائح كاملة من البشر، مسلطة الأضواء على أولئك الذين ترغب الجهات الإنتاجية في ترويج قصصهم الجاذبة للمتفرجين، وهو ما دأبت السينما الأميركية على تقديمه على مر السنوات، واضعةً في الصفوف الأولى أبناء الطبقة الوسطى ثم شديدي الثراء، وفي الخلفية القليل من المهمشين.
"الليل يأتي دائما" (Night Always Comes) عمل معاكس لهذا التيار، فيلم أميركي يسلط الضوء على المهمشين، أولئك الذين يعيشون يومًا بيومه، وأي خطأ بالنسبة إليهم هو حكم بالإعدام، فالاقتصاد الحالي لا يرحم، والفقر والتشرد في الشوارع بلا مأوى وهما النتيجة الفورية لأي قرار غير صحيح.
"الليل يأتي دائمًا" مقتبس من رواية بالاسم ذاته نُشرت عام 2021 في أجواء ما بعد وباء "كوفيد-19" وبدء انهيار الاقتصاد العالمي، وهو من إخراج بنجامين كارون، وبطولة فانيسا كيربي وجنيفر جيسون لي وزاك جوتساجن.
سينما المهمشين في "الليل يأتي دائما"
يقدم "الليل يأتي دائما" في لحظاته الأولى أجواء غنية بالتناقض، فمن ناحية تستيقظ البطلة لينيت (فانيسا كيربي) في منزل رث للغاية، كل ما حولها يقف عند حدود الانهيار، بداية من السقف وحتى علاقتها الأسرية بأخيها كيني (زاك جوتساجن) وهو من ذوي متلازمة داون، وأمها دورين (جنيفر جيسون لي)، غير أن لينيت تقابل هذا التداعي، سواء كان حقيقيًا أو مجازيًا، بروح معنوية عالية، وتعتبر اليوم أهم أيام حياتها.
ويعتمد الفيلم أسلوبًا مغايرًا في السرد، إذ يبدأ مباشرة من الأزمة بدلاً من التمهيد التقليدي للشخصيات وعلاقاتها، ليكشف لاحقًا عبر الأحداث عن ملامح هذه الشخصيات والديناميكيات التي تحكمها.
وتدور القصة حول لينيت التي تخطط لشراء المنزل الذي استأجرته عائلتها لسنوات طويلة، وفي اليوم المحدد لتسديد المقدم والتوقيع على العقود، يكون كل شيء جاهزًا باستثناء مبلغ 25 ألف دولار تحتفظ به والدتها.
وتستيقظ لينيت بحماس، تذهب إلى عملها في مصنع للمخبوزات، ثم تلتحق بدروس الاقتصاد برفقة شقيقها كيني، ورغم اعتراض المحاضِرة على اصطحابه، تتقبل اللوم بهدوء وتمضي إلى مكتب العقارات لملاقاة الصدمة الكبرى، فقد قررت والدتها عدم شراء المنزل، وأنفقت المال على سيارة جديدة، وهكذا تجد لينيت نفسها وأسرتها مهددين بالطرد إن لم تتمكن من جمع المبلغ المطلوب خلال أقل من 24 ساعة.
ويشارك المتفرج لينيت في سباقها مع القوت لجمع المبلغ العملاق بالنسبة إلى إنسانة معدمة مثلها، وخلال هذه الرحلة يكشف الفيلم عن أمرين أساسيين: الأول شخصية البطلة وماضيها، والثاني مدى قسوة المجتمع الأميركي الذي يحول الحلم الذي وعد به مواطنيه إلى كابوس.
وفي الجزء الأول من الفيلم، وقبل معرفة لينيت القرار، تبدو فتاةً تتمالك نفسها، تستيقظ مبكرًا وتعمل في مهنة محدودة الدخل غير أنها ثابتة، ثم تأخذ دروسها، لكن ما إن تعرف القرار حتى يكشف الفيلم عن الوجه الآخر لحياة لينيت، عملها في أحد المقاهي وعدم التزامها بمواعيد عملها، وماضيها المضطرب الذي تسبب في سجنها، وعلاقاتها المتعددة بأشخاص ذوي ميول إجرامية.
الليل كمرآة للأزمات
يأتي شريط الصوت منذ بداية الفيلم كنبوءة واجبة التحقق، فنسمع عبر الراديو في الخلفية حديثا مستمرا عن تأثير الأزمة الاقتصادية في الفقراء بوجه خاص، فبينما ضربت هذه الأزمة الطبقة الوسطى بشكل أخل توازنها، فإنها تلقي بالفقراء يوميًا من على حافة الحياة المعدمة التي عاشوها في الماضي إلى المجهول.
ويمثل الطبقة الوسطى في الفيلم شخصية محدودة الظهور على الشاشة، وهو صاحب المنزل الأصلي، ذلك الذي تضطره الأزمة الاقتصادية إلى بيع المنزل الذي ورثه عن والده. غير أنه نتيجة لالتزامه الأدبي تجاه العائلة التي استأجرت المنزل طويلًا، يتيح لها تسهيلات في السداد وأولوية في الشراء على الرغم من وجود مشترين آخرين، وقبل نهاية الفيلم يقوم هذا الشخص بمكالمة هاتفية يتضح منها أن هذه الطبقة التي حاولت مناصرة الفقراء تخلت عنهم تمامًا عندما أحاطت بها الضائقة الاقتصادية مثل أنشوطة الإعدام، فنقلوها من أعناقهم إلى أعناق هؤلاء الأفقر والأقل حظًّا.
وكان الليل مجالًا مناسبًا لتجري فيه أحداث الحكاية، فالظلمة هي المعادل الأنسب لحياة لينيت التي تركت حياتها المضطربة خلف ظهرها محاولةً بدء حياة جديدة، وكانت إحدى أهم خطواتها في ذلك السبيل امتلاك منزل يؤويها مع أسرتها، غير أن تخلي والدتها عنها أعادها خطوات إلى الوراء، فبحثت عن الدعم في الأماكن الخطأ، ومثل كرة الثلج بدأت الأحداث المؤسفة في التسارع، كما لو أنها تضغط على لينيت لتكتشف هل بالفعل ستضحي بكل شيء لإنقاذ عائلتها؟
وعلى عكس كرة الثلج التي تكبر لتدمر حياة لينيت، يستكشف الفيلم كرة مختلفة تشبه كرة الصوف الملتف حول نفسه، وهي شخصية لينيت وعلاقتها المعقدة بوالدتها، فبينما يدفع الفيلم المتفرج نحو فرضية معينة في البداية، نجد أن الوضع يتغير كلما عرفنا أكثر عن الشخصيتين مع اقتراب النهاية.
ويتناول فيلم "الليل يأتي دائما" بشكل مختلف "اقتصاديات الفقر"، ذلك المصطلح الذي يغطي فرعا من فروع علم الاقتصاد، ويدرس الفقر من حيث أسبابه وآثاره وآليات الحد منه، كما يهتم بتحليل العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى اتساع الفجوة بين الطبقات، ويُرينا الفيلم عبر قصة يسهل تصديقها للغاية كيف أصبح من السهل خروج الفقراء من عالمهم الآمن سابقًا إلى آخر أكثر توحشًا نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية.