علبة ألوان
داخل كل منّا، توجد علبة ألوان خاصة، تحمل في طياتها كل درجات الحياة وتناقضاتها. نفتحها لنكتشف كيف تتشكل عوالمنا الداخلية وتنعكس على من حولنا. هذه العلبة ليست مجرد أداة للرسم، بل هي مرآة تعكس طبائع البشر. فيها ألوان براقة، وأخرى باهتة، لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو وجود لون واحد لا يتشعب ولا يتدرج: اللون الأبيض.
اللون الأبيض في علبة الألوان فريد من نوعه. إنه نقاء لا يُضاهى، بساطة لا يمكن اختزالها، وثبات لا يلين. لا يوجد منه أبيض فاتح أو أبيض غامق، هو فقط أبيض. هكذا هم البشر النقيّون، الذين يمثلون قمة الأخلاق والقيم الأصيلة. هؤلاء نادرون، يشبهون اللؤلؤة التي يصعب العثور عليها في أعماق البحار. إنهم أصحاب المبادئ الثابتة، والضمائر الحية، الذين لا تتغير مواقفهم أو جوهرهم بتغير الظروف. إنهم الأفراد الذين يمثلون الأمان والصدق، والذين لا يعرفون للتزييف طريقًا.
على النقيض تمامًا، نجد باقي الألوان في العلبة. كل لون منها يتدرج إلى عشرات الدرجات والظلال. الأحمر يتحول إلى وردي، وأرجواني، وبني، والأزرق يصير سماويًا أو نيليًا، والأخضر يصبح ليمونيًا أو زيتونيًا. هذه الألوان المتعددة والمتدرجة هي تجسيد دقيق للبشر المتلوّنين. هناك من يتلون بلون الخبث، وهذا الخبث له درجات؛ فمنهم من خبثه ظاهر وفظّ، ومنهم من يغلفه بابتسامة مصطنعة وكلمات معسولة. وهناك المتلون بلون النفاق، الذي يرتدي أقنعة متعددة حسب الموقف والمصلحة، فتجده يمدحك في حضورك ويذمّك في غيابك. أما الحسد، فله هو الآخر ظلاله التي تتراوح بين الحسد الصامت والحسد الذي يصل إلى حد التدمير.
هذه الألوان المتشعبة والدرجات المتداخلة تمثل تعقيد النفس البشرية وتنوعها. إنها تُظهر كيف يمكن للإنسان أن يجمع بين المتناقضات، وأن يغير شخصيته ومبادئه لتناسب الظرف. من هؤلاء من يخلط الألوان بمهارة، فيصعب على من حوله التمييز بين حقيقته وزيفه، وبين صدقه وكذبه. هم يمزجون الألوان ببراعة حتى يصبحوا غامضين، لا يمكن فهمهم أو التنبؤ بتصرفاتهم. إنهم يعيشون حياة من التلون المستمر، يغيرون فيها أشكالهم وألوانهم حسبما تقتضي مصالحهم.
وفي خضم هذا المزيج من الألوان، يظل اللون الأبيض هو النقطة المضيئة والساطعة التي نتمسك بها. إنه تذكير بأن النقاوة لا تزال موجودة، وأن الثبات على المبادئ ليس مستحيلًا. قد تكون علبة ألوان حياتنا مليئة بالدرجات المتعددة، لكننا دائمًا ما نبحث عن بياض القلوب والنفوس. إنه الضوء الذي نرنو إليه، والأمان الذي نسعى إليه في بحر من التلون والزيف. فلنحاول أن نكون ذلك اللون الأبيض النادر، الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي يمنحنا شعورًا بالصفاء والسلام وسط فوضى الألوان.