ورد عن الإمام السجاد (ع): «وَاجْعَلْ شُكْرِي لَكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي، أَوْفَرَ مِنْ شُكْرِي إِيَّاكَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِي» (الصحيفة السجادية، ص 181).
تتجاوز العلاقة بين العبد وربه منطق العطاء والمنع كما هو معيار العلاقة بين الفرد ونظرائه؛ فالمنع بين البشر يؤسس للبغضاء والكراهية بسبب الإحساس بالحرمان والتبلد الوجداني تجاه حاجات الغير وآلامه. لنستفيق على منطق الإمام السجاد (ع) المتعلّق بالفهم والإدراك الدقيق للعظمة والقدرة الإلهية؛ فالعطاء والمنع الإلهي لا يقومان على مبدأ التفريق بين العباد أو ظلمهم، بل على مبدأ المصلحة الخفية والاختبار، إذ يصبّ العطاء والمنع في طريق الرحمة الإلهية في كل الأحوال.
ومقطع الدعاء يفيض بالحكمة، وينبع من قلبٍ موقن بعدل الله تعالى، مطمئنٍ بقضائه، راضٍ بحكمه؛ فما زواه الباري عن عبده — أي صرفه عنه ومنعه من شيء من زينة الحياة الدنيا — وما خوّله — أي أعطاه من فيض الفضل من مالٍ وصحةٍ وجاهٍ وعلمٍ وفرصٍ… إلخ — كلاهما من عنايته تعالى.
فمن السهل على النفس البشرية أن تشكر الله حين تُمنح، فعندما يُرزق الإنسان مالًا أو ينجو من بلاء أو يحقق نجاحًا، يتجه تلقائيًا إلى الشكر، وهي فطرة سليمة فطر الله الناس عليها. وهذا النوع من الشكر وإن كان محمودًا، إلا أنه أدنى مراتب الشكر. أما الشكر على ما زُوي ومُنع، فهو أرفع درجات الفهم والتسليم؛ إذ يشكر الإنسان ربّه على البلاء، وعلى المنع، وعلى ما لم يُمنح، وهذا هو التوحيد وكمال الثقة بالله تعالى.
في هذا السياق، يقول الإمام: «اجعل شكري على ما زويت عني أوفر»؛ أي أعظم وأدوم وأصدق من شكري على ما أعطيتني، لأن المنع قد يكون في حقيقته أعظم نعمة مع جهل العبد بالمنفعة التي تصبّ في مصلحته. فلا يُقاس الخير بكثرة ما يُمتلك، ولا يُقاس الشر بفقدان الممتلكات، بل العبرة بما فيه الصلاح الحقيقي للعبد في دنياه وأخراه. فالمنع في ظاهره حرمان، لكنه في باطنه رحمة وتدبير؛ فالله تعالى قد يصرف عنك مالًا كان سيطغيك، أو منصبًا كان سيضيعك، أو زواجًا كان سيشقيك، أو شهرة كانت ستفتنك.
المنع ليس فقط لحمايتك، بل لتربيتك أيضًا؛ فحين تُحرَم من أمرٍ رغبتَ فيه، فأنت تُربّى على الصبر، والقناعة، والتوكل، والرضا، وهي من ثمرات التوحيد الخالص. وفي دعائه (ع) هذا لا يطلب أن يُمنح، بل يطلب أن يُعلَّم الشكر على الحرمان، وهذا مقامٌ لا يصله إلا الأولياء.
الفهم العميق لهذا الدعاء يحرر الإنسان من شعور الضياع والندم المفرط؛ فحين تدرك أن ما فاتك إنما فُوّت عنك رحمةً، فإنك ترتاح نفسيًا. والإنسان بطبعه يطمح ويخطط، لكن من يفهم هذا الدعاء يضع طموحه بيد الله، ويعلم أن الله تعالى سيختار له ما هو أصلح، سواء وافق هواه أم لا.
حين ترى في كل منعٍ حكمة، وفي كل حرمانٍ لطفًا، تصبح أكثر تواضعًا، وأقل حسدًا، وأبعد عن التذمر. وهذا يعزز فيك التقوى والرضا وحسن الظن بالله. إنه ينقل الإنسان من مرتبة الشكر المشروط إلى مقام الرضا المطلق، والشكر غير المحدود، ويعلّمه كيف يرى في كل شيء نعمة — حتى في المنع، والحرمان، والخسارة، والتأخر. فإذا أردنا أن نكون من العارفين حقًا، فلنتعلم كيف نشكر الله تعالى لا فقط على ما أعطانا، بل على ما منعنا؛ لأنه حين منع، فإنما فعل ذلك بعين الرحمة، وبيد اللطف، وبحكمةٍ لا تراها أعيننا القاصرة