أخي الكريم، هل رأيت يومًا كأسًا زجاجيًا يهتز تحت صوتٍ متكررٍ في ترددٍ محدد، حتى ينكسر؟ هذا ليس بسبب قوة الصوت، بل لأن الموجتين تتشابهان لدرجة اختفاء الحدود بينهما. هنا يظهر الرنين: تلاقي ذبذبتين في كيان واحد. نفس فكرة هذه الظاهرة الفيزيائية، حين تدخل إلى عالم الإنسان، تتحوّل — إذا فقدت توازنها — إلى مرض.
انظر، جسدنا ليس مجرد لحم وعظم، بل هو مملكة من الترددات. لكل خلية نغمتها، ولكل عضو مقامه في أوركسترا الحياة. إذا تسلّل تردد غريب — خوف، توتر، أو فكرة متكررة بلا توقف — بدأ اللحن الاضطراب. هنا لا يتكلم المرض بلغة التحاليل فقط، بل بلغة النشاز: نغمة خرجت عن مقامها، تبحث عن انسجام مفقود. الحزن المتكرر والغضب المستمر ليسا إلا موجتين تضربان نفس الجدار، حتى ينكسر التوازن، وتدوّي في الجسد موسيقى الانكسار.
أخي القارئ، تخيل نفسك عائدًا من يومٍ طويل في العمل. كل تفكيرك يدور حول ما فاتك، وما أخطأت فيه، وما ستفعله لاحقًا. كل فكرة تكرر نفسها، مثل موجة تضرب الصخر بلا توقف. في النهاية، تجد رأسك يؤلمك، وصدرك يضيق، ونفسك يشتكي قبل أن تعرف السبب. هذا هو الرنين النفسي، يبدأ صغيرًا ثم يكبر، ويستولي على الجسد والنفس معًا.
حتى الأطفال يمرّون بتجارب الرنين البسيطة. طفل يخاف من الظلام، أو يتكرر رفضه الذهاب إلى المدرسة، يدخل في موجة من القلق تتضاعف مع كل يوم. الجسد يترجم هذا القلق إلى صداع، أو اضطراب في النوم، أو فقدان الشهية. قد لا ينطق الطفل بكلمة واحدة. الجسد يتحدث لغة الصوت والنغمة، قبل أن تتحدث عقولنا بالكلمات.
النفس حين تقيم قرب فكرة سلبية تدخل في حالة “رنين وجداني”. الشعور يتضخم ويبتلع صاحبه. يبدأ الأمر بخوف صغير، ثم يكبر كدوامة تجذب كل ما حولها. يتحول القلق إلى تعب جسدي، والحزن إلى مرض لا يُرى بالأشعة، بل في العيون التي أطفأها التكرار. وهنا، حين يعجز الطب عن تفسير ما يحدث، قد يبدو الشفاء بعيدًا، ويخدعنا الدجل في ثوب العلاج البديل.
لكن الشفاء يبدأ من الداخل، من تردد آخر: تردد الصلاة، والهدوء، والطمأنينة. في جوف الليل، حين يسكن كل شيء، وتغيب الضوضاء من حولك، تنبعث موجة نورانية من قلبك إلى خالقك. ليست كلمات دعاء وحركات صلاة وخشوع فقط، بل ذبذبة سماوية تهتز على تردد الطمأنينة. في تلك اللحظة، يتكسر الرنين الضار، وتعود نغمة الجسد إلى مقامها الفطري. تسكن النفس كما تستكين البحار بعد العاصفة، وتستيقظ الخلايا على لحنٍ من رحمة الله.
إخوتي، الوعي هو المفتاح لموازنة هذا الرنين. بالحكمة نوقف الدائرة قبل أن تتضخم، وبالبصيرة نسمع اللحن الشاذ في داخلنا لنقول له: “قف، لست مني.” عندها يعود النظام إلى الجسد، كما يعود النجم إلى مداره بعد اضطراب. التوازن لا يُستعاد بالقوة، بل بالإنصات العميق إلى رنين الوجود بداخلنا.
تأمل معي في الحياة اليومية:
حين نغضب على أحد أحبائنا بسبب كلمة صغيرة، هل هي فعلاً السبب، أم الرنين الداخلي الذي تراكم طوال اليوم؟
حين نشعر بالإرهاق بعد أسبوع عمل شاق، هل هو التعب وحده، أم موجات من القلق والخوف والضغط النفسي تضغط على الجسد؟
حين لا يستطيع الطفل النوم بسبب صوت خفيف أو فكرة تلاحقه، هل هو مجرد صوت، أم رنين داخلي يستولي على سلامته؟
قف هنيئة واسترجع ما قرأت للتو، كل هذه الأمثلة تعلمنا أن الرنين لا يقتصر على الفيزياء، بل هو قانون كوني يتكرر في كل شيء: في جسدنا، وفي عقولنا، وفي حياتنا اليومية. كل اضطراب صغير، كل فكرة سلبية، كل شعور متكرر، هو تردد غريب يحتاج إلى ضبطه وإعادة تناغمه.
إن مرض الرنين يعلمنا أكثر مما تعلمنا الصحة. فهو ليس نقمة في حد ذاته، بل هو في باطنه رسالة من الكون، تذكّرنا بأن أي اضطراب في داخلنا هو نداء للعودة إلى لحننا الأصلي بالعودة إلى الله (إنا لله وإنا إليه راجعون). فكما تجمعت غازات الكون لتشكل نجمًا بأمرٍ إلهي، تتجمع خلايانا لتتعلّم من الرنين كيف تعود إلى نورها الداخلي.
الوعي هو الوتر الذي يربط الأرض بالسماء، يتأرجح بين ألم وسكون. إذا وُجّه إلى الله، صار الرنين شفاءً؛ وإذا ابتعد عن مصدر النور والرحمة الالهية، صار مرضًا. فاحذر أن تهتز بتردد ليس لك، لأن الرنين الذي لا يُضبط… يحطّم أقوى الكؤوس ويضعف أصفى النفوس.
هذه تذكرة لنا جميعًا، راقب تردداتك اليومية، واسمح لنفسك بالسكينة بين الأصوات. استمع إلى جسدك، استمع إلى قلبك، وتعلم أن كل اضطراب صغير هو رسالة للعودة إلى مقامك الطبيعي. حين نفعل ذلك، يتحول الرنين من مرض إلى درس، ومن ضيقٍ إلى فسحةٍ للنور الإلهي





رد مع اقتباس