في البدء، لم تكن الكلمة، كان الصمت. اتساعٌ غامض خرجت من أعماقه الأصوات والمعاني، ومن سكونه تشكّل الوعيُ الأول كوميضٍ في رحم الغياب.
هناك وُلدت دهشتنا الأولى، وتفتّحت الرؤية على سرّ الوجود، كأنّ الكون كلَّه يهمس بأن الحقيقة لا تُقال، بل تُصغى.
ومنذ تلك اللحظة، بدأنا نبحث عن ذواتنا في صدى ما لا يُقال، نصغي إلى ما وراء اللغة، حيث تسكن أرواح الأشياء في سكونها العميق.
كُنّا نرى الثِّقل في خطواتٍ تقودنا إلى المدرسة في صباحٍ تغمره رائحة المطر، أو إلى طبيبٍ يُخفي خلف ملامحه خوفنا الصغير.
ظننّا الحريةَ مفتاحًا في الجيب، أو سهرةً نُقيمها بلا إذن، والكِبَرَ بوابةً إلى الأمان، والألمَ غيمةً ستمرّ ما إن يبتسم الضوء.
لكننا كبرنا.
اكتشفنا أن الأمان ليس وعدًا، بل امتحانٌ طويل في الصبر.
يأتي الربيع حين يفرغ الشتاء من وصاياه، ويولد الوضوح من تماسّ العتمة.
ما ظننّاه عبئًا، كان ما يُبقينا في هيئة الوقوف.
خشينا الصمت، ثم فهمنا أنه السكينةُ التي تُرمّم الداخل وتمنح القلب لياقة البقاء.
صرنا نحمل جراحًا لا تُرى، ونضحك لأن البكاء صار ترفًا لا نملكه.
نتنفّس الصبر كما يتنفّس الغريق بين موجتين، ونُخفي هشاشتنا كي لا نُثقل قلوب من نحبّ.
الرياح لم تكن معنا،
لكننا تعلّمنا أن نقيم أشرعتنا في وجهها لا على هواها.
لم نعد نبحر لأن البحر آمن، بل لأن الإبحار وحده يمنحنا المعنى.
صارت المقاومة صلاةً خفيّة، والثبات إيمانًا صامتًا يُنقذ حين تخذل الكلمات.
ثم التقينا بظل الطفولة فينا. الطفل الذي كان يصرخ إن جاع أو بكى، ها هو اليوم يخبّئ صوته خلف ابتسامةٍ تشبه الرضا ولا تشبهه. تعلّم أن يصمت لأن القول لا يُفسّر الوجع، وأن يبتسم لأن الجرح، حين يُفصح عنه، يفقد نقاءه.
وأولئك الذين بدَوا غارقين في الغموض، اكتشفنا أنهم كانوا يخوضون معارك لا يراها أحد. وحين صرنا هم، وجدنا أنفسنا في الميدان ذاته، نظنّه حرية، فإذا به امتحانٌ من حريرٍ ومسؤوليةٍ ودم.
الحرية ليست أن نفعل ما نشاء، بل أن نحيا بما يليق بقلوبنا، ولو ضاقت بنا الخيارات.
وهكذا، صار الانتظار وجهًا آخر للإيمان،
والقراءةُ محاولةً للعثور على أنفسنا في كتبٍ تركناها منذ عمرٍ بعيد. صرنا نبحث عن شهودٍ مرّوا بالريح ذاتها ولم يسقطوا، عن أولئك الذين علّمهم الصمت كيف يُضيئون من الداخل.
وفي النهاية، لم نكن مخطئين تمامًا ونحن صغار. الفصول لا تزهر كلها، لكننا تعلّمنا أن نزرع الربيع في التفاصيل الصغيرة؛ في ضحكةِ طفلٍ تُشبه النور، وفنجانٍ يعيد طمأنينة الصباح، وكتابٍ يفتح ذاكرة القلب، ودقيقةِ صمتٍ تسبقُ الفجر.
لم تُبدّدنا الأوجاع،
بل علّمتنا أن نُغيّر اتجاهنا في وجه الرياح. وها نحن -أبناءُ هذا العالم- نمضي بقلوبٍ مرهفةٍ وأيدٍ صلبةٍ نحو المجهول، نوقن أن الفجر مهما تأخّر،
لا يخون من انتظره بنقاء.
فليس الصمتُ ما يُنقذنا، بل الإصغاءُ لما يقوله فينا.





صوت الصمت
رد مع اقتباس