عَلَّمَتْنِي أُمِّي أَنْ أُغْلِقَ بابي، فَفِي هٰذَا الزَّمَانِ لَا تُفْتَحُ الأبوابُ.
وَجَّهْتُ نَفْسِي إِلَى الكُتُبِ وَقِرَاءَةِ الأَفْكَارِ، وَخَبَايَا مَا بَيْنَ السُّطُورِ.
فِي طُفُولَتِي كُنْتُ أُصْغِي إِلَى زَقْزَقَةِ العَصَافِيرِ وَهِيَ تُحَيِّي الصَّبَاحَ،
عَشِقْتُ بُزُوغَ الشَّمْسِ وَحَفِيفَ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ.
فِي الغُرُوبِ أَجِدُ سَكِينَةً مُخَضَّبَةً بِكَلِمَاتِ "جُبْرَان" عَنْ سَلَامِ الرُّوحِ وَالأَجْنِحَةِ المُتَكَسِّرَةِ، وَالمَحَبَّةِ.
هَكَذَا كَانَتْ "طُفُولَتِي، صِبَايَ، وَشَبَابِي" اسْتِمْتَاعًا بِكُلِّ مَا يَبْعَثُ عَلَى المَحَبَّةِ.
فِي بَلَدِ الثَّلْجِ وَالمُرُوجِ الخَضْرَاءِ، اعْتَدْتُ أَنْ أُصْغِيَ إِلَى البَشَرِ، فَلَمْ أَسْمَعْ إِلَّا القَلِيلَ القَلِيلَ مِمَّا يُجِيدُونَ الحَدِيثَ عَنْهُ، فَاعْتَزَلْتُ، وَوَجَدْتُ عُزْلَتِي كَنْزًا لَا أُفَرِّطُ بِهِ.
فِي يَوْمٍ صَيْفِيٍّ، كَانَتِ البُحَيْرَةُ أَكْثَرَ سِحْرًا، وَطَائِرُ اللَّقْلَقِ هُنَاكَ يُبَادِلُنِي النَّظَرَاتِ وَهُوَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَيَسَارًا.
كَانَ هُوَ أَيْضًا هُنَاكَ، أَسْمَرَ البَشَرَةِ، حَادَّ النَّظَرَاتِ، بَدَا لِي وَكَأَنَّهُ الأَوْحَدُ بَيْنَ الرِّجَالِ؛ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُ كَانَتْ تَفِي عَنْ كُلِّ مَا يُحِيطُ بِي مِنْ كَلِمَاتٍ.
قَالَ: لَنْ أَغِيبَ، لَنْ أَخْذُلَ، وَلَنْ أَتْرُكَ مَجَالًا لِكُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَنَا.
وَبَعْدَ طُولِ انْتِظَارٍ، أَفَقْتُ كَمَنْ يُفِيقُ مِنْ حُلْمٍ جَمِيلٍ.
مُذْ ذٰلِكَ الوَقْتِ، مَا عُدْتُ أُطِيقُ عُزْلَتِي، وَبِتُّ أَشْعُرُ بِالوَحْدَةِ أَكْثَرَ، وَصِرْتُ أَرَاهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
فَغَدَوْتُ أَسْتَمِعُ لِثَرْثَرَاتِ النَّاسِ وَأَحَادِيثِهِمْ، حَتَّى وَإِنْ لَمْ أُنْصِتْ إِلَيْهَا، كُنْتُ أَبْحَثُ فِي الضَّوْضَاءِ عَنْ مَهْرَبٍ لِي مِنْ وَحْدَتِي، وَأَدْرَكْتُ أَنَّ العَالَمَ الحَقِيقِيَّ مُجَرَّدُ أَكَاذِيبَ وَخِدَاعٍ وَقَهْقَهَاتٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الحَقِيقَةِ وَمَا فِي القُلُوبِ.
عِنْدَهَا أَدْرَكْتُ أَنَّ الأَبْوَابَ المُغْلَقَةَ قَدْ تَكُونُ فَخًّا، وَأَنَّ حَيَاةَ العُزْلَةِ قَدْ تَجْعَلُكَ تُصَدِّقُ بِغَبَاءٍ،
وَتُحِبُّ بِغَبَاءٍ أَكْبَرَ.





رد مع اقتباس