نمنا على النعمة.. فاستيقظت النقمة
الحمد لله والشكر لله، هل أصبحتا لفظتين نتفوه بهما بوصفها عادة يومية من دون وعيٍ بمعناهما؟
هل تحوّل الشكر إلى عادة نردّدها في كل موقف لا لأننا نشعر بها؛ بل لأننا تعلّمنا قولها؟
متى كانت آخر مرَّة قلنا ”الحمد لله“ من أعماق القلب لا من أطراف اللسان؟
نِعَم كثيرة تحيط بنا ونعيشها لحظة بلحظة: الصحة، الأبوين، العائلة، الأبناء، المال، السعادة، الأصدقاء، الوظيفة، الجيرة، الوقت، الأمن، والأمان.
كلها بين أيدينا نراها ونلمسها، ولكننا لا نحمد الله عليها إلا حين نفقدها، فنقولها حين نمرض أو نخسر أو نفتقد من نحب، وكأن النعمة لا تُعرف إلا حين تغيب.
كم من أبٍ وأمٍ لم يحمدا الله على نعمة المال والبنين؟
وكم من شابٍ لم يشكر الله على وظيفةٍ أعانته على بناء حياته ومستقبله؟
وكم من متعافٍ يملك الصحة والعافية لكنه لا يصونها ولا يشكر الله عليها؛ بل يرهق جسده كأن العافية لا تزول؟
وكم من فتاةٍ تتباهى بجمالها أمام الغرباء، غافلةً عن أن هذا الجمال قد يُسلب منها في لحظة؟
وكم من جماعةٍ يتفاخرون أمام الناس بوضع الحاشي على موائدهم العامرة، غير آبهين بعيون الفقراء الذين يبحثون عن لقمة عيش؟
وكم من شابٍ يستعرض بسيارته الفارهة أمام آخر يعلم أنَّه لا يملك سوى دراجةٍ متهالكة، دون أن يشعر أنه بكبريائه ذاك قد كسر قلبًا؟
وكم من أمٍ تنشر حفلة عيد ميلاد ابنها في قصرٍ فخم وهدايا باهظة، غير مدركة أن بين من يشاهدها أيتامًا فقدوا أمهاتهم؟
وكم من رجلٍ يوثّق رحلته في طائرته الخاصة، بينما هناك من يشاهده وهو يجمع ما تبقّى من راتبه ليشتري سيارةً بسيطة توصله إلى عمله؟
هل هذا هو الشكر؟
هل غايتنا أن نظهر النعمة للناس أكثر مما نحفظها عند الله؟
أم أننا أصبحنا نخاف أن تضيع صورتها من أجهزتنا أكثر مما نخاف أن تضيع بركتها من حياتنا؟
وحين نغفل عن النعمة، تبدأ آثار الغفلة تتسلل إلى حياتنا بصمت، فتتحول البركة إلى همّ، وتزول الطمأنينة من القلوب، وينشأ التذمر وتضعف القناعة، ويحلّ الحسد محلّ الرضا.
تتباعد الأسر وتكثر المقارنات، ويُقاس الإنسان بما يملك لا بما يكون، فتتلاشى القيم ويختفي الشكر الحقيقي، وتضيع النعم كما ضاعت معانيها.
ولكي نخفف من هذه الغفلات، لا نحتاج إلى خطب ولا حملات ضخمة، بل إلى صحوة صغيرة تبدأ من داخل البيت، بأن نعيد تعريف الشكر في حياتنا اليومية لا كشعار نردده؛ وإنَّما كعادة نعيشها ونربي أبناءنا عليها.
فليبدأ كل بيتٍ بجرعة وعي بسيطة، نجتمع فيها ولو لدقائق لنتحدث عن نعمة واحدةٍ فقط أنعم الله بها علينا اليوم، وأن نذكّر أبناءنا كيف ستكون حياتنا لو فقدناها، ليشعروا بقيمتها قبل غيابها.
ومن الحلول أن نربّي أبناءنا على الامتنان لا على التذمر، وأن نعلمهم قول ”الحمد لله“ قبل الشكوى، وأن يروا في والديهم قدوة شاكرة لا متبرِّمة.
كما ينبغي أن نقلّل من استعراض النِّعَم في وسائل التواصل، ونستبدلها بفعل الخير في الخفاء، فالأجمل أن يطعم الأب أبناءه طعامًا بسيطًا ويقول: ”الحمد لله الذي أطعمنا“، بدلًا من تصوير مائدته ليراها الآخرون.
وفي المجتمع يمكننا أن نزرع ثقافة الشُّكر العملي بأن نشكر عمّال النظافة والموظفين والمعلّمين، وأن نحافظ على النعمة العامة كما نحافظ على الخاصة؛ فلا نهدر الماء، ولا نرمي الطعام، ولا نترك المساجد والحدائق في حالٍ يُرثى لها.
إن الشكر ليس طقوسًا ولا كلمات؛ بل منهج حياة يبدأ من تقدير التفاصيل الصغيرة: كوب الماء، عافية الجسد، دفء الأهل، وطمأنينة البيت.
وحين نعيش الشكر بصدق، نحمي النِّعَم قبل أن تُسلب، ونستيقظ ونحن نحمد الله لا ونحن نندم على غفلتنا.





رد مع اقتباس