زحمة الحياة
في زحمة هذا العالم الرقمي، معظمنا نعيش في ما يشبه ”الحياة على وضع الطيران الآلي“. نُنجز المهام، نردّ على الرسائل، نتابع الأخبار، نستهلك كل جديد، بينما في الداخل شيءٌ ما يخفتُ تدريجيًا.. الشعور بالحياة الحقيقية. أحياء، نعم بكل تأكيد، لكننا أبعد ما نكون من ”العيش“ الحقيقي. نركض بلهفة وكأننا نخشى أن نتأخر عن شيءٍ لا نعرفه، بينما في الحقيقة ما نتأخر عنه هو أنفسنا.
ما من زمنٍ أغرى الإنسان بالتيه كما يفعل هذا الزمن. فالإعلانات لم تعد تبيعنا منتجات بقدر ما تبيعنا أوهامًا عن السعادة حتى أصبحنا نُقاس بما نعرض لا بما نُخفي، وبما نملك لا بما نُكنّه في أعماقنا. ومع كل خطوة نخطوها نحو ما نسميه ”حداثة“، نفقد شيئًا من صدقنا الأول، من ذاك الهدوء الداخلي الذي كان يمنح الأشياء معناها الحقيقي.
القلق لم يعُد طارئًا، بل صار هو القاعدة الجديدة للحياة. ننام منهكين لا من العمل، بل من التشتت. نُرهق أنفسنا بمحاولات التوازن بين ما نريد فعله وما نُجبر عليه. وحتى لحظات الراحة لم تعد راحة، لأن عقولنا تظل متصلة بكل ما يدور خارجنا. وفي هذا الخضم، لم يعُد السؤال ”كيف نعيش..؟“ بل ”كيف نحيا دون أن نفقد أنفسنا..!“.
الخطوة الأولى لاستعادة تلك الحياة هي التوقف. لا لنعاود الركض مجددا بشكل جنوني، بل لنصمت قليلًا ونصغي إلى ما بداخلنا. أن نسأل أنفسنا بصدق.. متى آخر مرة شعرنا فيها أننا أحياء فعلاً..؟ متى تفاعلنا بعمق مع ما نفعل..؟ ومتى كان آخر لقاء صادق جمعنا وذواتنا..! هذه الأسئلة ليست ترفًا فلسفيًا، بل بداية النجاة بعيدا عن العيش الآلي الذي يسلبنا الدهشة والمعنى.
لكي نستعيد إحساسنا بالحياة، علينا أن نعيد النظر في جداولنا اليومية. أن نملأها بما ينعش أرواحنا لا بما يستهلكها. فالحيوية لا تأتي من كثرة الأنشطة، بل من اختيار ما يمنحنا طاقة صافية. ربما يكون ذلك في لحظة تأملٍ قبل الفجر، أو نزهةٍ بلا هاتف، أو حديثٍ حقيقي مع من نحب. المهم أن نزرع في يومنا فسحةً نعود فيها إلى ذلك الإنسان..!
لا تقل إن الحياة الهادئة مستحيلة في هذا العصر، فالمشكلة ليست في العالم، بل في طريقة العيش التي ارتضيناها لأنفسنا. العالم كان وسيبقى مزدحمًا، لكننا نستطيع أن نختار مستوى الضجيج الذي نسمح له بالدخول إلينا. السكينة لا تُشترى، بل تُمارس. تُبنى من لحظات صغيرة نختارها بوعي، من قول ”لا“ لما يُرهقنا، ومن الاكتفاء بما يجعلنا بخير.
في النهاية، الحياة الرائعة ليست تلك التي تخلو من العثرات، بل تلك التي يكون الإنسان فيها على وفاقٍ مع نفسه. أن يعرف ما يريد، وأن يتقبّل ما لا يمكن تغييره، وأن يُصغي إلى نداء روحه قبل أن يذوب صوته في صخب العالم. فربّ إنسانٍ يعيش حياة بسيطة، لكنها مليئة بالسكينة، وقد تكون أعمقُ ثراءً ممن يمتلك كل شيءٍ إلا نفسه..!





رد مع اقتباس