من ألم الفقد إلى وعي البقاء
عندما يُغيّب الموت عزيزًا لك، فكأنما يُنتزع قطعةً من قلبك، وجزءًا من عافيتك، والكثير من حيويتك. وقد تفارقك الفرحة والبسمة التي تعلو دائمًا وجهك.
فبعد الرحيل ترتسم مشاعر الحزن والكآبة على صفحة أيامك وساعاتك، وترى الحياة بلون باهت، غابت عنه كل ألوان البهجة والفرح. تفقد جمالها ولذتها، بل يصبح طعمها مرّ المذاق، وتشعر بأن نَفَسك ضيّقٌ حرج، وكأنما يصعد إلى السماء، وكأنك لا تملك القدرة على مواصلة العيش دون هذا الفقيد.
يبدأ كل شيء فيك يذبل، حتى العمر ولو كان في ربيع أيامه، ومصدر الإدراك، وهو عقلك، لا يمكنه استيعاب فقده.
ومع مرور الوقت، يبدأ القلب في فهم ما وراء الفقد…
وبصيرتك تزداد وضوحًا، فتدرك أن الغياب ليس نهاية، بل تذكير بحقيقة الدنيا.
إنه الرحيل الذي اقترب منا، وإن طال بنا البقاء.
حقيقةٌ مرّة غابت خلف مغريات هذه الحياة الفانية، ترى نفسك تجري خلفها لتُبعدك عن الاستعداد لهذا اليوم والتهيؤ له. تبعدك عن هدفك السامي الذي من أجله أوجدك الخالق في هذه الحياة.
وتنكشف عن بصيرتك الحجب التي كانت تغطيها، لترى ما وراء المغيّبات، وكأن الأعمار كأوراق الشجر تتساقط الواحدة تلو الأخرى كلما هبّت رياح الموت بجانبها، إلى أن يأتي دورك لتسقط معها.
وكم هي الدروس والعبر تتراءى أمامنا في كل يوم وفي كل لحظة!
وها هو الموت يُغيّب كل يوم أحبّةً كبارًا وصغارًا، ليعلن بصمته أن القادم دورك أنت.
يقول أمير البلغاء (ع): ”عجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموت“.
حقيقةٌ مرّة لا يحب البعض حتى أن يتذكرها، لأن الموت شيء أعلى من مستوى استيعاب العقل البشري، فالخوف منه يأتي من عدم إدراك ما فيه.
فليس أمامنا إلا أن نزود أرواحنا بزادٍ يبقى بعد الرحيل:
ذكرٌ طيب، وعملٌ صالح، وتقوى تُضيء لنا طريق الغيب.
فتعاليم الدين هي طوق النجاة الذي يحملنا في بحر الدنيا، ويقودنا بأمانٍ إلى الآخرة، كما قال تعالى:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: الآية 197]
فرحيل الأحبة جرح لا يندمل، ولكنه جسر يذكّرنا بحقيقة الدنيا وفنائها، ويشدّنا إلى دار البقاء. وما بين ألمٍ يسكن القلب، وإيمانٍ يرفع درجتك، تتجلّى فلسفة البلاء.
أنّ الله أراد بنا أن نسمو لا أن ننكسر، وأن نكون سادة الظروف لا عبيدها.
نستمدّ من محنتنا دافعًا، ومن دموعنا عزيمة، ولنجعل من فقداننا يقظة ورضا.
اللهم ارحم موتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات، ورحم الله من قرأ لأرواحهم الفاتحة المباركة، قبلها الصلاة على محمدٍ وآل محمد.





رد مع اقتباس