سان فرانسيسكو/ كاليفورنيا - منذ 44 عاما، تشق مسيرة ليلية طريقها عبر قلب حي الميشن، الحي اللاتيني التاريخي في سان فرانسيسكو.
يتقدم المسيرة راقصو الأزتك، تتبعهم حشود من المحتفلين الذين يزدانون بزهور الماريغولد وطلاء الوجوه الذي يحول الأحياء إلى موكب من الجماجم الملونة الزاهية.
يقام هذا الاحتفال بمناسبة "يوم الموتى"، وهو عيد يحتفى به في المكسيك وفي أنحاء أميركا اللاتينية لتكريم الراحلين.
يرى لوي غوتييريز، أحد منظمي فعاليات سان فرانسيسكو، أن المناسبة تجمع بين التأمل الحزين والفرح الصاخب في آن واحد.
يقول غوتييريز، الذي يعمل مع جماعة "إل كوليكتيفو ديل ريسكاتي كولتورال دي لا ميشن" المعنية بالحفاظ على الثقافة: "ثمة إحساس بالتعاطف يملأ الأجواء".
غير أن هذا العام، وبينما استعدت المجتمعات اللاتينية في أرجاء الولايات المتحدة للاحتفال بالمناسبة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يخيم شعور آخر على كثيرين: الخوف.
فمنذ توليه المنصب لولاية ثانية، يتبع الرئيس دونالد ترامب سياسات صارمة في تطبيق قوانين الهجرة، في إطار سعيه لتنفيذ ما وصفه بـ"الترحيل الجماعي".
وقد ألغيت فعاليات "يوم الموتى" في بعض المناطق خشية أن تتحول إلى هدف أو موقع جذب لعناصر وكالة الهجرة والجمارك (آي سي إي) أو دوريات الحدود الأميركية.
يوم الهالوين يعد يوم مرح وخوف رمزي وتنكر، بينما "يوم الأموات" هو يوم تأملي وإنساني للاحتفاء بالذكريات والموت كجزء من الحياة (شترستوك)
ويحتفل بالهالوين في ليلة 31 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وقد نشأ من مهرجان الكلت القديم الذي كان يعتقد فيه أن الحدود بين العالمين الأحياء والأموات تصبح أرق، ويسود فيها الخوف من الأرواح الشريرة. مع دخول المسيحية أصبح اليوم يرتبط بسهرات التنكر و"الحلوى أو المقلب" وغيرها من الطقوس الترفيهية.
في المقابل، يحتفل بيوم الأموات في المكسيك وفي بعض الدول اللاتينية في الأول والثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو احتفال يعد تكريما للأرواح الراحلة والزمن المشترك بين الأحياء والأموات؛ إذ تقام ذبائح وتزين بالأطعمة والزهور والشموع والذكريات.
والروح العامة لكل احتفال مختلفة، فالهالوين يميل إلى جانب المرح والخوف الرمزي والمظاهر التنكرية، بينما "يوم الأموات" يأخذ طابعا أكثر تأمليا وإنسانيا، باعتباره فرصة للقاء الذكريات والموت باعتباره جزءا من دورة الحياة.
الكاتب المكسيكي ميغيل مالذوناذو قال للجزيرة نت في وقت سابق تعليقا على احتفاء بعض المكسيكيين بعيد الهالوين "إن الهالوين يفقد الموت قدسيته ومعناه، في حين أن الاحتفال بعيد الأموات يعكس احترام الناس لأسلافهم وأجدادهم وللموت عامة، وهو يحمل معاني أعمق وأكثر حضارة من الهالوين، وهو أبعد من مجرد احتفال، إنه محاولة لفهم الحياة والموت".
يسير المشاركون على طول شارع 24 في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا ضمن احتفالات يوم الأموات السنوية (الجزيرة)
في وقت تُحيي فيه الجاليات اللاتينية في الولايات المتحدة ذكرى عيد "يوم الموتى" تُخيّم على بعض فعاليات هذا العيد أجواء من القلق في أميركا. إذ ترى منظمات المجتمع المدني أن التجمعات الكبيرة قد تجذب انتباه وكالة الهجرة والجمارك الأميركية، خصوصا في ظل تصاعد نشاطها لمراقبة وترحيل المهاجرين.
في مدن مثل "لونغ بيتش" وعدد من مناطق خليج سان فرانسيسكو، تم إلغاء أو تعديل الفعاليات، بحجة "الخوف من أن تكون الرؤية والظهور الجماعي مخاطرة"، ورغم أن السلطات المحلية تؤكد عدم وجود معلومات محدّدة عن استهداف تلك الأحداث، فإن شعورا عاما بانعدام الأمان دفعها لاتخاذ قرارات استباقية.
وعلى سبيل المثال، ألغت مدينة ديكايتر بولاية ألاباما هذا الشهر مهرجانها السنوي لـ "يوم الموتى"، مشيرة إلى تهديدات بحملات مداهمة تنفذها سلطات الهجرة.
وجاء في بيان نشره المنظمون على موقع فيسبوك: "اتُّخذ القرار في ضوء المناخ الوطني الحالي المتعلق بوضع الهجرة والمخاوف الأمنية، وتبقى أولويتنا القصوى هي سلامة مجتمعنا والمشاركين وأصدقائنا".
وفي منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، ألغي أيضا احتفال بـ "يوم الموتى" كان من المقرر إقامته في مدرسة بيركلي الثانوية في 25 أكتوبر/تشرين الأول.
وأوضحت أدريانا بيتي، المديرة التنفيذية لمنظمة "رايز" التعليمية غير الربحية، أن القرار جاء بعد أن عبّر عدد من أولياء الأمور عن قلقهم من حضور الفعالية السنوية.
وأضافت بيتي أن بعض العائلات المهاجرة تخشى الذهاب إلى المدرسة حتى في الأيام العادية خوفا من مواجهة عناصر إنفاذ القانون، قائلة:
"لدينا أولياء أمور يطلبون من أشخاص آخرين مرافقة أطفالهم إلى المدرسة، وآخرون يحملون جوازات سفرهم معهم أينما ذهبوا".
وأشارت إلى أن إلغاء الفعالية في اللحظات الأخيرة شكّل خسارة للبائعين الذين كانوا يبيعون أطعمة مثل التاماليس والأغواس فريسكاس، كما فوّت فرصة ثمينة لربط العائلات بموارد المجتمع، مثل برامج المساعدة الغذائية.
لكن تهديدات الاعتقال والترحيل دفعت قادة المجتمع، مثل بيتي، إلى موازنة المكاسب والمخاطر قبل اتخاذ القرار.
طفل يعزف على الغيتار خلال احتفالات يوم الأموات في سان فرانسيسكو في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 (الجزيرة)
خلال العام الماضي، ارتفع عدد المحتجزين لدى وكالة الهجرة والجمارك الأميركية بنسبة تقارب 59%، إذ ازداد من نحو 37 ألفا و395 شخصا في سبتمبر/أيلول 2024 إلى 59 ألفا و762 شخصا الشهر الماضي.
كما ارتفعت أيضا عمليات الترحيل، إذ نُفِّذ ما يقارب 527 ألف عملية ترحيل منذ بداية الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض تريشيا ماكلوغلين في بيان صدر في أكتوبر/تشرين الأول، مرحّبة بهذا الارتفاع: "إدارة ترامب تسير نحو تحطيم الأرقام القياسية التاريخية".
وتُعد كاليفورنيا من بين الولايات التي هدّد ترامب بنشر قوات فدرالية فيها، في إطار حملته لتنفيذ عمليات الترحيل ومكافحة الجريمة.
وقد أرسل بالفعل في يونيو/حزيران الماضي نحو 4 آلاف عنصر من الحرس الوطني و700 من مشاة البحرية (المارينز) إلى لوس أنجلوس، ردّا على الاحتجاجات ضد سياساته في مجال الهجرة.
وفي وقت سابق من الشهر الماضي، كان ترامب يستعد لإرسال قوات عسكرية إلى سان فرانسيسكو، لكنه في النهاية ألغى العملية مؤقتا.
وعلى بُعد نحو 6 ساعات جنوب سان فرانسيسكو قرر متحف الفن المعاصر في سانتا باربرا تعليق إقامة موكب كاليندا ديّا دي لوس مويرتوس التقليدي لهذا العام.
وقد تميز هذا الحدث في الأعوام السابقة بالموسيقى والرقصات القادمة من ولايتي واهاكا وغيريرو المكسيكيتين، إلى جانب مذبحٍ لتكريم الموتى وأطباق من المطبخ الواهاكي.
غير أن داليا غارسيا، المديرة التنفيذية للمتحف، قالت في تصريحٍ لـ "الجزيرة" إن المنظمين لم يتمكنوا هذا العام من ضمان سلامة الفعالية، نظرا لأنها تُقام في شارعٍ مفتوح.
تُقام القرابين أو العروض التي تُقدم عادة على المذابح خلال يوم الأموات لإحياء ذكرى الأحباء الذين رحلوا (الجزيرة)
أقرت داليا غارسيا بأن الاحتفال يمكن أن يكون شكلا من أشكال المقاومة، غير أنها ترى أن على السود والسكان الأصليين وذوي البشرة الملوّنة -الذين يُعرفون اختصارا باسم مجتمع "بي آي بي أو سي"- أن يتحمّلوا عبئا إضافيا يتمثل في توقّع الآخرين منهم أن يقدّموا تقاليدهم كعرض احتفالي، بغض النظر عن التهديدات التي يواجهونها.
وقالت غارسيا: "نحن في مجتمع "بي آي بي أو سي" يُنتظر منا دائما أن نظهر سعداء، وأن نستمر في إقامة هذه الاحتفالات، لكن الحقيقة بالنسبة لي مختلفة. أعتقد أننا بحاجة إلى أن نُظهر أن ما يجري يؤثر فينا".
وأشارت إلى أن المجتمع الزراعي ذا الغالبية اللاتينية المحيط بسانتا باربرا تكبّد خسائر مؤلمة في الأشهر الأخيرة. ففي يوليو/تموز الماضي، عندما دهمت وكالة الهجرة والجمارك مزرعتين للقنّب -إحداهما في مقاطعة سانتا باربرا والأخرى في مقاطعة فينتورا المجاورة- توفي أحد العمال بعد سقوطه من سطح أحد البيوت الزجاجية، واعتُقل أكثر من 300 شخص.
وفي بيان عام حول إلغاء فعالية يوم الموتى، أوضحت غارسيا قائلة: "ليس الجميع يملكون امتياز الاحتفال علنا. فبالنسبة للكثيرين في مجتمعنا، الظهور ذاته يحمل خطرا".
ومع ذلك، أوضحت في حديثها مع قناة الجزيرة أنها لا تعارض إقامة الاحتفالات هذا العام، مضيفة: "لا أقصد أبدا القول إن على أحدٍ ألا يحتفل. لا بأس بالاحتفال، لكن كيف يمكننا في الوقت نفسه نشر الوعي بما يحدث؟ وكيف يمكننا تجاهل حقيقة أن الفرح ليس حاضرا لدى الجميع؟".
رجل يعلق رسالة على جدار من الملاحظات لأحبائه المفقودين خلال "يوم الأموات" في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا (الجزيرة)
في سان فرانسيسكو، أقرّ لوي غوتييريز، وهو ابن لمهاجرين مكسيكيين، بأن المناخ السياسي المشحون هذا العام يُلقي بظلاله على أجواء الاحتفالات.
تملك عائلته مخبزا في حي الميشن منذ عام 1977، وقد لاحظ أن بعض أفراد المجتمع المحلي يفضّلون البقاء في منازلهم كإجراء احترازي.
قال غوتييريز إن الوضع يبدو "كما لو أننا نعيش أيام جائحة كوفيد-19 من جديد"، موضحا أنه يشجع الناس على فعل ما يشعرون أنه الأكثر أمانا لهم.
وأضاف: "أفهم أن المشاركة قد تنطوي على بعض المخاطر، وأنصح كل من يشعر بأنه معرّض للخطر بألا يأتي".
ومع ذلك، أشار مازحا إلى أن: "لو جاءت عناصر وكالة الهجرة إلى هنا، فسيجدون أنفسهم ببساطة أقلَّ عددا من الحاضرين".
ورغم كل شيء، يؤمن غوتييريز بأن شيئا لن يمنع المجتمع من الالتقاء وإحياء المناسبة.
قال بثقة: "المسيرة تنبع من الناس أنفسهم، تبدأ بوجود المنظمين أو من دونهم... إنها ستحدث حتما".





مخاطرة الظهور في "عيد الأموات"





رد مع اقتباس