نِعَمُ اللهِ من منظورِ أهلِ بيت النبوة «عليهم السّلام»
ينظر أهلُ البيتِ (عليهم السلام) إلى النِّعَمِ ببعدٍ وعمقٍ من مجرد كونها متاعًا دنيويًّا عابرًا، فهي يعتبرونها رسائلَ رحمةٍ إلهيّة، ومواسمَ معرفةٍ وشكرٍ وابتلاءٍ، تُصقَل بها النفوسُ وتُختبَرُ بها القلوب؛ فهي الجسر الذي يوصل الإنسانَ بخالقه، وليست مجرد زينة تنبئه بزوالها.
فهم يرون - سلام الله عليهم - أنّ كلَّ ما يفيضُ على الخلقِ من خيرٍ هو فيضٌ من رحمةِ الله الواسعة، فقد ورد عن الإمام عليّ (ع) أنه قال: «النِّعَمُ لا تُحصى، ولا يُدرَكُ شُكرُ الواحدةِ منها» [1] .
فالنعمةُ في نظرهم ليست ما نراهُ بأعيننا فقط، بل ما يسكنُ القلبَ من سكينةٍ، وما يشرقُ في الروحِ من هدايةٍ، وما يُهيَّأُ للعبدِ من فرصِ القربِ من الله.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [2] .
والمتتبع لمنهجهم النورانيّ يجد أن الشكرَ ليس مجرّدَ لفظٍ على اللسان، بل هو معرفةٌ بالمنعِم، وخضوعٌ له، وتسخيرٌ للنِّعمةِ في طاعته.
فقد ورد الإمام الصادق (ع) أنه قال: «من أُنعِم عليه بنعمةٍ فعرفها بقلبه فقد أدّى شكرها» [3] .
فالشكرُ الحقيقيّ أن يرى العبدُ كلَّ جميلٍ في حياته أثرًا من آثارِ لطفِ الله، فيزدادُ خشوعًا، لا غرورًا؛ وافتقارًا، لا استكبارًا.

وقال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [4] .
كذلك يُعلّمنا أهلُ البيت أنّ النِّعَم قد تكونُ اختبارًا في صورةِ منحة، كما قد يكونُ البلاءُ رحمةً في ثوبِ ألم.
فقد قال أميرُ المؤمنين (ع): «رُبَّ نِعمةٍ مُستدرَجةٍ، وبلاءٍ مُنعَمٍ به» [5] .
فكم من إنسانٍ أُعطي مالًا فغفل، وآخرَ ابتُلي فاستيقظ؛ ولعلّ ما نراهُ خسارةً يكونُ بابًا للغنيمةِ الكبرى: معرفةِ الله.
يقول تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [6] .
يُجمِعُ أهلُ البيت (عليهم السلام) على أنّ أجلَّ النِّعَم وأثمنَها هي نعمةُ الهدايةِ والإيمان، فهي التي تُنيرُ البصيرةَ، وتمنحُ الحياةَ معناها الحقيقيّ.
يقول الإمام زينُ العابدين (ع) في الصحيفة السجاديّة: «الحمدُ لله الذي هدانا لِدينِهِ، وخصّنا بملّتِهِ، وأرشدنا إلى سبيلِ إحسانِهِ» [7] .
ويقول الإمام الصادق (ع): «ما أنعم الله على عبدٍ بنعمةٍ أعظم من أن عرّفه ولايتنا» [8] .
فالنعمةُ الكبرى عندهم هي معرفةُ الله وولايةُ أوليائه، وهي النعمةُ الباقيةُ التي تورثُ الخلود.

يتضح من فكرهم النيّر، أن النعمةَ ليست ملكًا شخصيًّا، بل أمانةً تُزكّي صاحبَها إن أحسنَ استخدامها.
قال الإمام عليّ (ع): «إذا وصلت إليكم أطرافُ النِّعَم، فلا تُنفّروا أقصاها بقلة الشكر» [9] .
وقال أيضًا: «من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها» [10] .
فالنِّعمةُ التي لا تُثمِرُ عملًا صالحًا، ولا تُعينُ على البرّ، إنما تُفقدُ معناها وتتحوّلُ إلى حجابٍ بين العبد وربّه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [11] .
حتى البلاءُ عندهم نِعمةٌ تستبطنُ الرحمة؛ لأنّه يُطهّرُ القلبَ من التعلّق، ويُعيدُ الإنسانَ إلى جوهرِ عبوديتِه.
قال الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة: «إلهي، ماذا وجدَ من فقدَك؟ وما الذي فقدَ من وجدَك؟» [12] .
وقال أمير المؤمنين (ع): «واعلموا أن من نعم الله عليكم الابتلاء في السرّاء والضرّاء» [13] .
فمن وجدَ الله فقد امتلكَ سرَّ الغنى كلّه، وإن خلت يداه من الدنيا.
ومن هنا نخلص إلى أن منظورَ أهل البيت (عليهم السلام) للنعم؛ بأنها وسيلةَ معرفةٍ لا غايةَ متاع، وطريقَ تزكيةٍ لا سبيلَ ترفٍ.
هم يرشدوننا إلى أن نرى في كلّ لحظةٍ نعمةً تستوجبُ الحمد، وفي كلّ امتحانٍ منحةً تستحقُّ الصبر.

فما أجملَ أن نحيا بهذا الوعي؛أن نكونَ شاكرين في الرخاء، صابرين في البلاء، عارفين بالمنعِم قبل النِّعمة، ومحبّين لله على كلّ حال.
في ضوء ما ورد من فكر أهل البيت، إليكم نماذج تطبيقية واقعية تُظهر كيف يُحفظ الشكر ويُصان فضل الله في عصرنا الحاضر:
1. نعمة الصحة:
• شكرها يكون بالاعتدال في الطعام والرياضة والبعد عن الإدمان.
• ورد في الحديث: ”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.“
• مثال معاصر: برامج التوعية الصحية، والتطوع في حملات التبرع بالدم، وحفظ البيئة من الملوثات.
2. نعمة الأمن:
• حفظها يكون ببثّ روح السلم، والابتعاد عن الفتن، والإسهام في استقرار المجتمع.
• قال الإمام علي (ع): ”نعمتان مجهولتان: الأمن والعافية.“
• مثال معاصر: الالتزام بالقانون، والمشاركة في المبادرات الوطنية التي تحفظ الوحدة.
3. نعمة المال:

• حفظها بالزكاة والصدقة والتكافل.
• الإمام الصادق (ع): ”ما أنفق العبد من نفقةٍ أعظم أجرًا من نفقةٍ فيسبيل الله.“
• مثال معاصر: دعم الجمعيات الخيرية، وكفالة الأيتام، ومساعدة الأسر المتعففة.
4. نعمة العلم والمعرفة:
• حفظها بنشرها لا بكتمانها، وبالعمل بها.
• قال النبي (ص): ”من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من نار.“
• مثال معاصر: التعليم التطوعي، إعداد الدورات المجانية، نشر الوعي عبر المنصات الرقمية.
5. نعمة الوقت:
• حفظها بعدم تضييعها في اللهو والجدل.
• قال الإمام علي (ع): ”نَفَسُ المرءِ خُطاه إلى أجله.“

• مثال معاصر: استثمار الوقت في التعلم، وخدمة المجتمع، وعبادة القلب والفكر.
6. نعمة التكنولوجيا والاتصال:
• حفظها بالاستخدام الأخلاقي المسؤول الذي ينفع ولا يضر.
• مثال معاصر: استخدام وسائل التواصل لنشر الخير لا للغيبة أو الشائعات، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان لا تدميره.
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الحكمة «23».

[2] سورة النحل، الآية «18».

[3] الكافي، ج 2، ص 95.4. سورة إبراهيم، الآية «7».


[5] نهج البلاغة، الحكمة «364».

[6] سورة الأنبياء، الآية «35».

[7] الصحيفة السجادية، الدعاء الأول.

[8] الكافي، ج 1، ص 437.9. نهج البلاغة، الحكمة «24».

[10] غرر الحكم ودرر الكلم، ص 522.11. سورة الأنفال، الآية «53».