كان رجلا يشار له في زمنٍ مضى باعتباره واحدا من اولئك الذين يمشون بخطواتٍ لا تهتز، كأن الارض ترتب نفسها تحت قدميه لتمنحه صلابة اضافية. كانت هيبته اشبه برداءٍ لا يخلعه، حتى حين يصمت، وحتى حين يبتسم.
لم يكن غنيا فحسب، ولا صاحب سلطة فحسب؛ كان محاطا باحترامٍ لا يقبل النقاش. من يمر به يرفع رأسه، ومن يتحدث معه يقف باعتدال، ومن يختلف معه يتراجع قبل ان ينطق. عاش سنوات يظن انها ثابتة، كأن الايام تعاهده على البقاء في ذات القمة، وانه مهما اخطا او تهاون فلن تمسه يد السقوط.
لكن السقوط يحب اكثر الناس اطمئنانا.
تسللت الفوضى الى حياته مثل صدعٍ صغيرٍ لا ينتبه اليه احد. صفقة خاسرة، علاقة خانته، وعدٌ لم يستطع الوفاء به، ثم سلسلة من الاحداث كأنها تربّت على كتفه لتقول له: "استعد… دورك جاء."
انحدر ببطء، لا كمن سقط من الجبل، بل كمن يمشي نزولا دون ان ينتبه ما الذي يقع منه في الطريق. تلاشت مكانته، تبخرت الاموال، صمتت الهواتف التي كانت ترن طوال النهار، واغلقت الابواب التي لم يكن يحتاج حتى لطرقها.
وفي يومٍ قصير الشتاء، دخل الحي الذي صار يسكنه، حي متواضع لا يعرفه احد فيه. كانوا ينظرون اليه بدهشة، فملامحه ليست ملامح رجل عاش بين هذه الجدران. بعضهم يسال الاخر: "هل هذا هو أم لهُ شبيه؟ لا… هذا هو. هذا الذي كان يسكنةالأعالي … ماذا يفعل هنا ؟"
وكان هو يمر بينهم بلا مبالاة، كأنه اختار هذا المكان لا انه اجبر عليه.
لم يشعر بالخجل من طبقته الجديدة. اعتبرها شكلا عاديا لحقيقةٍ كان يرفض مواجهتها سنين طويلة. كان يعرف انه هو من اهمل نفسه، وهو من تردد في اللحظة الحاسمة، وهو من لم يحسن التعامل مع الفرص. كان يعرف ان الحظ لم يكن يوما في صفه، لكنه لم يكن السبب. السبب كان هو.
ومع ذلك… كان هادئا. يمشي كمن يحمل سراً لا يعرفه احد.
مرت شهور، واستقر في هذا القاع كما لو انه بيته الحقيقي. حتى بدأ الناس يعتادون وجوده، لكنهم لم يفهموا هدوءه. لم يفهموا لماذا لم يقاتل ليعود، ولماذا يبدو وكأنه ينتظر شيئا.
لكن المفاجأة لم تكن لهم… كانت له.
ذات فجر، بينما كان جالسا على كرسي خشبي امام بيته الصغير، توقفت سيارة سوداء فاخرة امامه. نزل منها رجلان بملابس رسمية، تقدما بخطوات مدروسة، ثم وقف احدهما امامه مباشرة وقال بصوت منخفض:
"سيدي… انتهى وقت الاختبار. لقد صمدت."
رفع الرجل نظره ببطء، وقد خطّ الزمن فوق عينيه تعباً ثقيلا.
لم يتكلم.
ولا ابتسم.
ولا تغيرت ملامحه.
اردف الشخص نفسه:
"مجلس الشركاء ينتظرك. المنصب الاعلى ما زال لك. والقرار الاخير صدر امس."
لم يكن الذين يراقبون من بعيد يفهمون شيئا.
ظنوا انها صدفة.
او ربما مساعدة.
لكن الحقيقة كانت ابعد من ذلك…
فالسقوط الذي عاشه لم يكن سقوطا.
كان اختبارا اجبر على خوضه ليثبت انه لا يستحق القيادة حتى يمر بذل كامل، ويخرج منه دون ان ينهار، ودون ان يتحول لوحش، ودون ان يفقد انسانيته.
وقف الرجل، نفَض عن ملابسه الغبار، ونظر الى الحي المتواضع كمن يودع مرحلة لا تشبهه لكنها علّمته كل شيء.
ثم قال بهدوء لم يسمعه الا القريبون:
"لم اخسر شيئا… انا فقط كسبت نفسي من جديد."
وصعد في السيارة، تاركا خلفه دهشة اهل الحي، ودهشة الماضي، ودهشة السقوط الذي كان بابا للصعود… لا الهاوية.
ولكن بينما كانت السيارة تتحرك، عبر نفقٍ ضيق، نظر الى المرآة الخلفية، فرأى ظلّه القديم يتبع السيارة، مبتسماً بابتسامة لا يفهمها سوى هو.
فهم حينها، بهدوء قاتل، ان كل سقوطٍ سبق كان مجرد بداية…
وان القاع الحقيقي لم يبدأ بعد، وأن الامتحان الاكبر سيعود ليقف امامه مرة اخرى، بلا تحذير… بلا رحمة.





رد مع اقتباس