الكاتب: العنف الذي يمارسه الأب على ابنه مقبول بمعيار متفق عليه في جماعة معينة لكنه منبوذ في جماعة أخرى (غيتي)
  • العنف والإنسان

إن العنف أبكم، يظهر في اللحظة التي تغيب فيها اللغة، وحين يفشل التواصل.. هذه ملاحظة حنة آرنت، وهي ملاحظة جد رائعة!
فالإنسان حين لا يستطيع أن يدافع عن فكرته بأدلة ويترافع عنها ببراهين عقلية، ولا يقدر على أن يقنع الآخر بها، فإنه يلجأ إلى العنف لكي يفرضها.
فالعنف يبدأ حين يصمت العقل في الوهلة الأولى لفقدان القدرة على التعبير القويم؛ لذا لا يدل العنف سوى على فشل في التواصل بين الأطراف، وفي إيجاد أرضية مشتركة للاتفاق، فيحدث الصدام لإلغاء الطرف المناقض.
لن أقول إن العنف يكمن في هذا الجانب فقط، أي في الجانب الذي يفقد فيه التواصل، وإنما يظهر أيضا في اللحظة التي يبرز فيها التمييز. فالعنف لن يختفي ما دام ثمة احتقار يقابله حقد؛ فكل احتقار يأتي بعده بالضرورة حقد، وعنف الحقد أشد وقعا من عنف الاحتقار.. وحين ينفجر عنف الحقد لا يترك أمامه شيئا، ولكن الحقد لا يأتي أولا، بل يأتي بعد الاحتقار.
فحين يمارس من هم أعلى مرتبة عنف الاحتقار على من هم أدنى منهم، يشعر هؤلاء بحقد شديد نابع من الكرامة التي يتحلون بها. لذا، كلما اشتد عنف الاحتقار زاد عنفوان الحقد، فإن برز كانتقام، مارس فعله دون تمييز، فهو عنف شمولي وأعمى، يرتبط بأشد الغرائز حيوانية في الإنسان وأعمقها، وبأقدم الوحوش المخفية داخل دهاليز اللاوعي.
لذا فإن عنف الحقد ما هو إلا نتيجة تأتي بسبب الاحتقار، لكن هذا لا يعني أن هذا العنف سيظهر مع كل احتقار، بل سيظهر فقط بحلول الشروط المناسبة له.
هل هذا العنف الثوري ضد نظام سياسي أم ضد نظام اقتصادي؟ فالنظام الرأسمالي هو نظام عالمي لا يمكن السيطرة عليه، على عكس النظام السياسي الذي يعد محليا، وهذا هو التحدي الكبير الذي تعيشه هذه الأطروحة

هل ثمة عنف مشروع؟

ليس ثمة عنف مشروع.. من يملك القوة يحاول أن يشرعن عنفه لكي لا يفقد صلته بالآخرين، فكل ممارسة تحتاج إلى تبرير لكي لا تتعرض للنبذ، والذين قالوا بمشروعية العنف انطلقوا من سياق الاتفاق أو التعاقد، فـ"لما تصل الدولة إلى درجة أن تكون عبارة عن تعاقد بين الأطراف، فإن الأطراف كلها تتنازل عن حقها في العنف لتحتكره الدولة". لذا فماكس فيبر حين يتحدث عن مشروعية العنف لدى الدولة فإنه يقصد الدولة العقلانية، لا الدولة التقليدية أو الشخصانية (الكاريزمية أو الزعاماتية).

ماذا عن العنف الثوري؟

العنف الثوري ينطلق من منطلقات محددة تؤطر تقدم التاريخ، فمن يدافع عن العنف الثوري يؤكد أن التاريخ كان عبارة عن صراع بين الطبقات (ولا يزال). كل طبقة حين ترغب في السيطرة على الدولة تستعمل عنفا لتحقيق ذلك؛ فالرأسمالية استعملت العنف البدئي أو التراكمي للسيطرة على الإقطاعيات وثروات الكنيسة، فالبرجوازية الأولى (أقصد مؤسسة النظام الرأسمالي) لم تكن لتراكم رأسمالا ضخما لتحقيق الثورة الصناعية لو لم "تخنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين"؛ لذا لا يمكن أن يسيطر العمال على الدولة دون اللجوء إلى العنف الثوري ضد البرجوازية.
ولكن، هل هذا العنف الثوري ضد نظام سياسي أم ضد نظام اقتصادي؟ فالنظام الرأسمالي هو نظام عالمي لا يمكن السيطرة عليه، على عكس النظام السياسي الذي يعد محليا، وهذا هو التحدي الكبير الذي تعيشه هذه الأطروحة. فسقوط النظام السياسي بالعنف الثوري لا يعني تغيير النظام الرأسمالي، هذا إن لم يتبع هذا العنفَ الثوري حربٌ أهلية.
العقاب مؤسس على العنف، والتربية في حد ذاتها عنف، لأنها في معناها العميق تعني تغيير سلوك معين وترسيخ سلوك آخر محمود جماعيا، أي نزع سلوك من الذات (سلخ سلوكي) وزرع سلوك آخر فيها (حشر سلوك)

هل ثمة أنواع للعنف؟

نعم، العنف إن عرفناه باختصار شديد سنقول إنه ذاك الضغط الذي يمارس على الذات لتغيير وسيلتها أو سلوكها أو قيمها أو هدفها. وباختصار أكثر، هو كل فعل يؤدي إلى تحريف مسار فعل آخر.. ويكون إما عنفا ماديا أو عنفا رمزيا أو عنفا نفسيا؛ فالإعلام يمارس العنف الرمزي والمرن لتغيير القيم والأهداف والسلوك، فالعنف هو قرين المجتمع، ولا يمكن لأي جماعة أن تبنى دون عنف.

إن كان الأمر هكذا فمتى ننبذ العنف؟

النبذ يؤسس دائما على معايير قبلية يتفق حولها الناس؛ فالعنف الذي يمارسه الأب على ابنه مقبول بمعيار متفق عليه في جماعة معينة، لكنه منبوذ في جماعة أخرى، والعنف الذي يمارسه الأستاذ على التلميذ محمود بمعايير معينة ومنبوذ بأخرى.
لذا، نقاش العنف يبدأ من نقاش المعايير: هل هذه المعايير اتفقنا حولها بعد نقاش تشاركي، أم إنها فرضت علينا لتحقيق مصالح فئة على حساب مصالح فئة أخرى؟
هنا مربط الفرس: التعاقد والنقاش حول المعايير.. لا يمكن أن نساوي بين عنف يمارس في دولة مؤسسة على أسس ديمقراطية، وعنف يمارس في دولة دكتاتورية؛ فالدولة الديمقراطية لديها إمكانية تغيير المعايير في أية لحظة، عكس الدولة الدكتاتورية التي تتشبث بمعاييرها إلى أن تسقط، وهذا هو السبب في دوام الدول الديمقراطية أكثر من الدول الدكتاتورية: المرونة والتكيف.
إن العنف يكمن في العلاقات بين الناس، ولا يمكن إلغاؤه؛ فكل علاقة ثمة عنف يتخللها بدرجة خفيفة أو بدرجة شديدة، ولا نستطيع أن نقضي على العنف مهما بلغنا من الرقي؛ فالعقاب مؤسس على العنف، والتربية في حد ذاتها عنف، لأنها في معناها العميق تعني تغيير سلوك معين وترسيخ سلوك آخر محمود جماعيا، أي نزع سلوك من الذات (سلخ سلوكي) وزرع سلوك آخر فيها (حشر سلوك).
وهذا لا يعني أن على الإنسان القبول به، بل مقاومته في اللحظة التي يشعر فيها بأن كرامته تهان، فوجود الشيء لا يعني القبول به بالضرورة.