من عبق الماضي: شتاء طفولتنا ”ملعب المطر“
نحن اليوم على مشارف فصل الشتاء، ومع أولى زخات المطر تعود إلينا ذكريات الطفولة كما لو أنها لم تغادرنا يومًا، ذكريات مرتبطة بمدارس الأمس وبضحكات الطلاب وهم يخرجون جماعات من أبواب المدرسة لا يحملون همًا سوى الوصول إلى برك الماء قبل أن يجرفها الطريق.
كان المطر يهطل غزيرًا فيتحول محيط المدرسة والطرقات المؤدية إلى البيوت أرضًا طينية مليئة بالحفر والمنحنيات، لكنها في أعيننا لم تكن عوائق، بل مساحات للفرح واللعب والاكتشاف، أجل، نركض وننزلق ونغمس أقدامنا في الماء المتجمع فوق الأرض الطينية، نعبث به ببراءة ونضحك دون خوف من بلل الثياب أو اتساخها.
تلك اللحظات تحمل طقسها الخاص، نرفع أيدينا الصغيرة إلى السماء مرددين بصوت واحد: زيدي، زيدي، وارحمي عبيدي.
دعاء طفولي بسيط، لكنه كان كفيلا بأن يجعل المطر صديقًا لا بردًا ولا تعبًا.
لم تكن الطرق معبدة كما هي اليوم، بل كانت تحكي حكايتها الخاصة: حفر صغيرة، وانحناءات خفيفة، وآثار أقدام تختفي مع كل هطول جديد، ومع كل خطوة كان الخيال يكبر وكانت المسافات تبدو أطول لكنها مليئة بالحياة.
كنا نعود إلى بيوتنا بملابس مبتلة وقلوب دافئة، نستمع إلى صوت المطر وهو يواصل عزفه على الأسطح والنوافذ غير مدركين أن تلك اللحظات العابرة ستتحول يومًا إلى ذاكرة ثمينة نبحث عنها كلما اشتقنا للبساطة.
كانت المظلة أو الشمسية كما اعتدنا تسميتها هي رفيقة الطريق نحتمي بها ونحن نجوب الحارات القديمة، كل شيء كان يبدو أكبر مما هو عليه في الحقيقة؛ الجدران أعلى والطرق أطول، وفناء البيت الصغير كان في عيوننا ساحة بلا حدود نركض فيها بلا حساب، غير مدركين أن اتساعها الحقيقي كان داخلنا ويفوق كل المساحات.
واليوم حين يهطل المطر لا نبحث عن مظلة فقط، بل نبحث عن ذلك الطفل الذي كنا عليه، عن ضحكة صافية وعن أرض طينية كانت أجمل ملاعب الطفولة، فبعض الذكريات مهما طال الزمن تظل تهطل في داخلنا كما المطر، فالشتاء بالأمس لم يكن قاسيًا كما نتصوره اليوم، بل كان مليئًا بالدفء الإنساني بقرب العائلة وهدوء الليالي وبصوت المطر وهو يطرق النوافذ معلنًا حضور الطمأنينة، ورغم تغير الزمن وتسارع الحياة ما زالت تلك الذكريات تعود كلما هطلت قطرة مطر لتخبرنا أن بعض الفصول لا تنتهي، لكنها تسكننا إلى الأبد





رد مع اقتباس