أمّ القمل والصيبان سيرة الخوف الصغير – بقلم صادق علي القطري
إلى كل جسدٍ تعلّم الخوف قبل أن يتعلّم اللغة، وإلى كل أمٍّ كانت تحرس أبناءها بالحكاية حين لم تكن المعرفة تملك أسماءها.
الخوف الذي يمشي على الرأس
لم يكن القمل يومًا مجرّد حشرةٍ صغيرة، ولا كانت الصيبان بيضًا عابرًا يلتصق بالشَّعر ثم يُنسى. في الذاكرة الشعبية، كانا نذيرين؛ يأتِيان بلا وقع، ويستقرّان حيث لا تُرى اليد، ويعلّمان الجسد درسًا قاسيًا عن الإهمال. ومن هذا الخوف الصغير، وُلد اسمٌ أكبر منه: أمّ القمل. اسمٌ لا يُقصد به شخص، بل حالة؛ لا يُحكى عنه ككائن، بل كظلٍّ يتسرّب، وكهمسٍ يُقال على عجل “انتبه… لا تجيك أمّ القمل”.
الأمّ بوصفها فكرة
في الحكايات الشعبية، تُسمّى المخاوف الكبرى بأسماء الأمهات. ليست الأمّ هنا امرأةً بعينها، بل رحم الفكرة وقدرتها على التكاثر. هكذا كانت أمّ القمل، أمّ لأن القمل لا يأتي واحدًا، ولأن الصيبان تُعيد إنتاج نفسها بصبرٍ مُخيف. الأمومة هنا ليست حنانًا، بل استمرارًا؛ ليست دفئًا، بل إصرارًا على البقاء. إنّها أمومة الخطر حين يجد بيئةً مهملة فينمو.
الجسد كبيتٍ للحكاية
كان الجسد في المخيال الشعبي بيتًا، وكل بيتٍ إن أُهمل دخلته الآفات. الرأس سقفُه، والشَّعر نوافذه، والجلد جدرانه. فإذا تراخى الحارس، جاءت أمّ القمل. لم يكن هذا توصيفًا طبيًا، بل أخلاقيًا؛ فالنظافة ليست ماءً فقط، بل انتباه، واحترامٌ للذات، ووعيٌ بالحدود. لذلك لم تُروَ الحكاية لتخويف الجسد وحده، بل لتقويم السلوك.
الصيبان الاستعارة المؤلمة
الصيبان، بيوض القمل، كانت الاستعارة الأشدّ قسوة. شيءٌ صغير، أبيض، ساكن، يبدو بريئًا، لكنه يحمل وعدًا بالأذى. كم من خرابٍ بدأ بصيبان؟ كم من فكرةٍ فاسدة التصقت بالرأس قبل أن تمشي على الأقدام؟ في هذا المعنى، صارت الصيبان لغةً ثانية تُحذّر من البدايات المهملة، من الشرّ حين يكون جنينًا.
الخوف التربوي قبل العلم
قبل أن تُعرَف الجراثيم بأسمائها، وقبل أن تُكتب الإرشادات الصحية، كانت الحكاية تقوم بالمهمة. الأمّ والجدة لم تكونا طبيبتين، لكنهما عرفتا أن الخوف، حين يُحكى بحنانٍ صارم، يحمي. فكانت أمّ القمل أداة تربية: تُذكّر بالاغتسال، وبتمشيط الشعر، وباختيار الرفقة، وبالابتعاد عن الأماكن المهجورة. حكاية قصيرة، لكن أثرها طويل.
الأنثى المخيفة لماذا أمّ؟
تتكرّر الصيغة الأنثوية في أساطير الخوف، أمّ الصبيان، السعلوة، وأمّ القمل. ليس ذلك انتقاصًا من الأنثى، بل اعترافًا بقوتها الرمزية. الأنثى في المخيال الشعبي مصدر الحياة، فإذا انقلب الرمز صار مصدر الخطر. إنّها المفارقة، ما يُنقذ يمكن أن يُهلك إن أُسيء فهمه أو أُهمل.
الفقر والعار الصامت
ارتبط القمل، ظلمًا، بالفقر. صار علامةً على العوز، وعلى انكسار الكرامة. لذلك حملت أمّ القمل أيضًا ثقل العار الاجتماعي. لم يكن الخوف منها صحيًا فقط، بل اجتماعيًا؛ خوفًا من النظرة، من الهمس، من الإقصاء. وهنا تتقاطع الحكاية مع العدالة، إذ تُذكّرنا بأن المرض لا يختار، وأن الوصم يزيد الألم.
القطيف والذاكرة المحلية
في الذاكرة القطيفية، لم تكن أمّ القمل أسطورة تُروى كاملة الأركان، بل جملة تُقال في الوقت المناسب. لا ملامح لها، ولا زمن محدد، لكنها حاضرة في البيوت القديمة، في مواسم الحرّ، وفي المدارس الأولى. حضورها صامت، لكنها فعّالة؛ كأنها قانون غير مكتوب لحماية الصغار.
بين الخرافة والمعنى
هل كانت أمّ القمل خرافة؟ نعم، إن نظرنا إليها حرفيًا. لكنها معنى، إن أصغينا لرسالتها. لقد أدّت دور العلم حين غاب، ودور القانون حين لم يكن مكتوبًا. حكاية صغيرة علّمت مجتمعًا كاملًا كيف يحمي جسده، وكيف يفهم أن الإهمال ليس قدرًا.
وفي الختام الخوف الذي علّمنا العناية
اليوم، وقد تغيّر الزمن، وبات للقمل اسمٌ علميّ، وللعلاج عبوةٌ وإرشاد، تبقى أمّ القمل شاهدةً على ذكاء الذاكرة الشعبية. علّمتنا أن الخوف ليس دائمًا عدوًا؛ أحيانًا يكون حارسًا. وأن الحكاية، مهما بدت بسيطة، قادرة على أن تنقذ رأسًا صغيرًا من وجعٍ كبير. هذه ليست سيرة حشرة، بل سيرة خوفٍ نبيل، صنع من الحكاية درعًا، ومن الهمس معرفة.
المهندس صادق علي القطري









رد مع اقتباس