أنا متأكد أنني رأيته مساء يوم أمس. كان في كامل صحته وأناقته واليوم قرأتُ نعيه في صفحة الأموات! مرض مدةً طويلة حتى يأس منه الأطباء ويئس منه أهله لكنه الآن أقوى من الحصان البري! كم من إنسان رأيناه مرّ بإحدى الحالتين؟ كم مرة دخلنا على مريضٍ في مشفى في غرفة الانعاش ثمّ عاش مدة طويلة بعدما رأيناه؟
لا تجزعنَّ من الهزالِ فطالما * ذُبِحَ السمينُ وعوفي المهزولُ
"كفى بالأجلِ حارسًا"! أنا وكلّ من عرفتهم في حياتي سيموتون يومًا ما. ولأننا لا نعرف متى نموت - يحرك جهلنا بنهاية الحياة كلَّ ما نقوم به. هذا هو السر الذي يعطينا الأملَ ويبقينا أحياءً، نأكل ونتزوج ونبني ونعمّر ونُؤسس شركات وننجب أطفالًا لأننا لا نعرف كم نعيش! لا نعرف كم بقي ولا متى تصل نقطة النهاية.
هو السرّ الذي يدفعنا لكي نطيع الله ونستعدّ لرحلة الآخرة، نصلي، نصوم، نحج، نصل أرحامنا، لأننا لا نعرف متى تنتهي الرحلة. إذا عرفنا أننا نعيش تسعين سنة لماذا لا نعيش في غيبوبة الأمل سبعين سنة ونستيقظ بعد ذلك عشرين سنة؟ أما إذا أيقنتُ أنني في الليل ولا أدري هل يأتي صباحي كنتُ مستعدًّا لأَجَلي ولا أستبعد المفاجأة.
لو كشف لنا الغطاء وعرفنا نقطة النهاية ومتى نموت ما أكلنا وما بنينا وما عمرنا، بل جلسنا ننتظر لحظة الوصول. عنه عليه السلام: "كفى بالأجل حرزا، إنه ليس أحد من الناس إلا ومعه حفظة من الله يحفظونه أن لا يتردى في بئر، ولا يقع عليه حائط، ولا يصيبه سبع، فإذا جاء أجله خلوا بينه وبين أجله".
يعني ذلك أن أتهور وأرمي نفسي من فوق بناء رفيع ولا أموت؟
كلّا كلًا! لا يعني هذا أن نترك أنفسنا عرضة للخطر أو من دون إجراءات سلامة مناسبة أو لا نعتني بصحتنا لأن من الأجل ما هو محتوم وما هو غير ذلك إنما الله سبحانه هو الحامي القادر على كل شيء ومن دون إرادته وأمره لا يتم شيء. كم رأينا من إنسان تعرض إلى حادث شنيع ظننا أنه لن ينجو منه لكنه نجا وآخر قلنا أنه حادث بسيط لن يصيبه خدش لكنه مات!
إذن ما العمل؟
رتّب أمرك، كنْ كالمسافر الذي لا يعلم متى وقت الرحلة. يجيء ويذهب والحقائب جاهزة. عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقالَ تحتها ثم راح وتركها".
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ}.
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".
جاء في حكم لقمان فيما أوصى به ابنه أنه قال:
يا بني تعلمتُ بسبعة آلاف من الحكمة فاحفظ منها أربعة ومر معي إلى الجنة:
أحكم سفينتكَ فإنّ بحركَ عميق، وخفف حملكَ فإنّ العقبةَ كؤود، وأكثر الزادَ فإن السفرَ بعيد، وأخلص العملَ فإن الناقدَ بصير.





المنايا جزارٌ يذبح السمينَ ويؤخر الهزيل!
رد مع اقتباس