لم تكن النظافة الشخصية والعامة في واحة القطيف سلوكاً طارئاً أو عادة مستحدثة، بل كانت امتداداً طبيعياً لبيئةٍ سخية بالماء، ووعياً مبكراً بعلاقة الإنسان بجسده وبالمكان الذي يحتضنه ، فحين يتوافر الماء، لا يبقى مجرد وسيلة للشرب أو الزراعة، بل يتحول إلى ثقافة راسخة، وإلى معيار يومي للسلوك، وإلى قيمة اجتماعية غير مكتوبة يتوارثها الناس دون حاجة إلى توصية أو تعليم ، في تلك الواحة، كان الماء حاضراً في تفاصيل الحياة الصغيرة ، في العيون الجوفية التي لم تكن مجرد منابع، بل فضاءات للذاكرة والطفولة ، هناك، عند عين الرواسيّة وغيرها، تعلم كثيرون السباحة قبل أن يتعلموا أسماء الأشياء، وكان الخوف والرهبة و الضحكات تختلط بصوت الماء، وتتشكل أولى علاقات الجسد بالطبيعة في صفاء لا يعرف التعقيد ، لم تكن تلك العيون مكاناً للنظافة فحسب، بل مسرحاً للتآلف الاجتماعي، ومدرسة غير معلنة لفهم معنى المشاركة والانتماء.
وإذا ابتعدنا قليلاً عن العيون، وجدنا البحر امتداداً آخر لتلك العلاقة الحميمة مع الماء ، لم يكن البحر في الوعي الجمعي مجرد فضاء للسباحة، بل عالمٌ قائم بذاته ، للصيد، للمغامرة، ولتعلم الصبر، والمهارة ، هناك، حيث كان صيد الميد والزمارير جزءً من طقوس الطفولة، تشكّلت ذاكرة جماعية ربطت بين الجسد والماء والعمل والمتعة في آن واحد.
هكذا تشكّلت النظافة، لا بوصفها فعلاً صحياً فحسب، بل كأسلوب حياة متكامل، ينبع من وفرة الماء ومن وعي الإنسان بقيمته، ومن علاقة متوازنة بين الطبيعة والإنسان ، كانت القطيف، بمائها وناسها، تُعلّم أبناءها أن الطهارة ليست فعلاً عابراً، بل ثقافة تعاش، وذاكرة تُورّث، وجمالاً يتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية.
العتبة الأولى
-الماء: من المورد إلى الوعي.
تميّزت واحة القطيف بوفرة عيونها الجوفية، المنتشرة بين القرى والبساتين والمزارع والنخيل ، والمستخدمة في الشرب، والري، والاغتسال، وتنظيف البيوت والأجساد والملابس ، هذا التوافر خلق علاقة يومية وحميمة بين الإنسان والماء، جعلت من النظافة والطهارة فعلاً سهلاً، وممارسة طبيعية لا تحتاج إلى تذكير أو توجيه ، فالماء حين يكون قريباً، يصبح جزءً من السلوك، وحين يغيب الماء ، تتحول النظافة إلى عبء أو ترف.
العتبة الثانية
المنظفات المحلية ، ذكاء المكان.
إلى جانب الماء، استخدم أهالي القطيف منظفات طبيعية مستخرجة من بيئتهم، مثل الطين المعروف محلياً بـ«بالطين الخويلدي»، المستخرج من الجارودية ، والذي استُخدم لتنظيف الجسد والشعر … ، لم يكن هذا الطين مجرد بديل، بل كان خياراً واعياً، يجمع بين الفعالية والبساطة والانسجام مع الطبيعة ، هذا الاستخدام يعكس فهماً مبكراً لمفهوم النظافة الصحية، قبل دخول المنتجات الصناعية بسنوات طويلة.
العتبة الثالثة
الحمامات العامة بعد اجتماعي للنظافة.
مع توسع القرى وتزايد السكان، ظهرت الحمامات العامة في عدد من مناطق واحة القطيف، لتؤكد أن النظافة لم تكن شأناً فردياً فقط، بل قيمة جماعية ، كانت هذه الحمامات فضاءً للاغتسال، ولتبادل الأحاديث والأخبار ، ولتعزيز مفهوم الجسد النظيف كجزء من الاحترام الاجتماعي ، ثم جاء لاحقاً ايصال المياه إلى المنازل ، ليكرّس النظافة كجزء أصيل من الحياة اليومية، لا ينفصل عن البيت ولا عن الهوية.
العتبة الرابعة
العطر: اكتمال الطهارة بالجمال.
لم يتوقف اهتمام الإنسان القطيفي وخصوصاً المرأة عند الماء والتنظيف، بل تجاوزه إلى التعطّر، باستخدام وتصنيع منتجات زراعية محلية وبعضها مستوردة، مثل الرازقي، والريحان ، وماء الورد ، وأنواع من الورد المحلي ، كانت هذه النباتات تُزرع وتُقطف من مزارع واحة القطيف ، وتُستخدم بروح بسيطة، لكنها عميقة الدلالة ، فالنظافة هنا لا تكتمل إلا برائحة طيبة، تترك أثرها في المكان والذاكرة ، ويتجلى هذا المعنى أكثر حين نستحضر صورة جداتنا و أمهاتنا، عند خروجهن لبعض المناسبات الاجتماعية أو الزيارات العائلية، وهنّ يتعطّرن بروائح تزكي الأنوف وتسبق الحضور ، لم يكن العطر زينة عابرة، بل لغة غير منطوقة، تعبّر عن الفخامة والهيبة و الوقار و الاحترام، والتهيؤ للقاء، ومكانة الآخر في القلب ، كانت تلك الروائح ( الخنّة كما يطلق عليها محلياً) تملأ الصوابيط والزرانيق الضيقة و الطرقات و المجالس، وتبقى عالقة في الذاكرة، حتى صارت جزءً من وجداننا، نستعيدها كلما مرّ بنا عطر يشبه عطر جدتي و أمي ، و في الذاكرة القطيفية، لم يكن ترفاً ولا مظهراً، بل امتداداً للطهارة، واكتمالاً للعناية بالجسد، واحتراماً للحضور بين الناس، وجمالاً صامتاً يرافق الذاكرة .
⁃ مفارقة معاصرة.
المثير للتأمل اليوم، أن بعض من يعيشون في زمن وفرة المياه والمنتجات، يبتعدون أو يتهاونون في استخدام الماء كعنصر أساسي للنظافة الشخصية ، وهي مفارقة تستدعي التوقف ، فحين كان الماء أقرب إلى الطبيعة وأقل تعقيداً، كان حضوره في السلوك أقوى، وحين أصبح متاحاً بضغطة زر، خفتت قيمته في الوعي!!!.
العتبة الأخيرة
واحة القطيف لم تكن غنية بالماء فقط، بل غنية بثقافة الماء ، ثقافة ترى في النظافة احتراماً للذات، وفي العطر لغة صامتة للجمال، وفي الجسد النظيف انعكاساً لبيئة متصالحة مع الإنسان ،إن استحضار هذه التجربة ليس حنيناً للماضي، بل دعوة لإعادة قراءة علاقتنا بالماء، وفهم كيف يمكن للبيئة، حين تُحترم، أن تصنع إنساناً أكثر وعياً، ونظافة، وجمالاً.





حين يصنع الماء ثقافة واحة القطيف.. دهليز
رد مع اقتباس