المياه العربية والقانون الدولي ,,,د. يوسف مكي
ضمن التحديات التي تواجهها الأمة صيانة أمنها المائي. وقد شاءت حقائق الجغرافيا أن يتدفق النصيب الأوفر من المياه العربية من خارج حدود الوطن. فالأنهار الثلاثة الكبرى: النيل والفرات ودجلة تنبع من دول مجاورة، مخترقة الأراضي العربية، متجهة نحو مصبيها في البحر المتوسط والخليج العربي، بعد أن تحقق الرخاء والبهجة للمناطق التي تمر بها. إضافة إلى ذلك، فإن وجود الكيان الصهيوني واحتلاله لأراض عربية، واستغلاله تفوّق آلته العسكرية لسرقة المياه، شكل ولا يزال، استفزازاً للأمن العربي.

وهكذا فبالقدر الذي كان فيه الماء مبعث استقرار للشعوب العربية، فإنه شكل أحد عناصر التحدي لأمنها القومي.

تطرح هذه القضية بحدة الأبعاد القانونية لتقاسم مياه الأنهار، خاصة في ظل غياب إمكان التفاهم المشترك، بين أطراف الصراع. فعلى سبيل المثال، لا تزال تركيا تصر على "حقها" في ممارسة السيادة المطلقة على مياه الفرات باعتبارها تنبع من أراضيها، من دون اعتبار لمصالح شريكيها: سوريا والعراق، اللذين يخترق نهر الفرات أراضيهما. وأيضاً من دون تسليم بالقوانين والاتفاقيات الدولية والإقليمية والأحكام التي تعالج قضايا الاختلاف بين الدول، على نحو ما هو مشابه لوضع الفرات. ومن جهة أخرى، تقوم إثيوبيا ببناء السدود، على النيل الأزرق، لري أربعمائة ألف هكتار. ومن المؤكد أن ذلك سينتج عنه اقتطاع جزء كبير من حصص السودان ومصر، اللتين يمر نهر النيل بأراضيهما. كما تقوم "إسرائيل" بمصادرة الثروة المائية من الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية والجنوب اللبناني، وتحول جزءاً كبيراً من روافد نهر الأردن لمصلحة استعمالاتها. فما رأي القانون الدولي حيال هذا النوع من القضايا؟

مع أنه لا توجد حتى الآن نصوص قانونية دولية واضحة حول تقاسم الثروة المائية، إلا أن القواعد الأساسية لمعالجة الخلافات متوفرة في وثائق الأمم المتحدة. وتتضمن تلك الوثائق نصوصاً وأحكاماً ومعاهدات، حيث ما يزيد على مائتين وخمسين معاهدة تنظم تلك العلاقة، يمكن أن تكون قاعدة قياسية، لمعالجة موضوع الأنهار التي لم يتم التوصل إلى أساس قانوني شامل لاقتسام مياهها، لا سيما أنها مصدر مكتوب لا خلاف عليه. ولأن الدول التي انضمت إلى تلك المعاهدات الدولية قد اختارت ذلك بمحض إرادتها، وأبدت استعدادها للالتزام بها، فإن ذلك يعطي تلك المعاهدات قوة قانونية.

ويرجع السبب في عدم وجود معاهدات شاملة حول الأنهار الدولية إلى اختلاف وضع كل نهر على حدة. بالإضافة إلى أن محاولات تدوين قواعد قانونية تحكم تقاسم المياه في كل الأنهار لم تكتمل بعد. ومع ذلك، فهناك معاهدات متعددة الأطراف، تتعلق ببعض أغراض استخدامات الأنهار الدولية، وهي مهمة لفهم هذا الموضوع، مثل معاهدة فيينا عام 1851م، ومعاهدة برشلونة حول النظام الملاحي عام 1921م، ومعاهدة جنيف حول تنمية الطاقة التي تمس أكثر من دولة عام 1923م. وتمثل المعاهدات الثلاث الأولى بداية انبثاق قانون دولي خاص بالأنهار الدولية. فقد عرفت معاهدة فيينا النهر الدولي، بأنه "النهر الصالح للملاحة الذي يمر عبر أراضي دولتين أو أكثر، أو يفصل بين هذه الأراضي". فكان تعريفها هو الأول من نوعه بهذا الخصوص، وهو تعريف جغرافي بصياغة قانونية، يمكن القياس عليه لغير أغراض الملاحة. بمعنى آخر، فإن هذا التعريف أخضع الأنهار التي تشترك فيها أكثر من دولة لقواعد قانونية. وقد توسع هذا التعريف فيما بعد، ليشمل روافد الأنهار ومياهها الجوفية.

ولعل معاهدة جنيف عام،1923 حول تنمية الطاقة الهيدرولية من أهم المعاهدات، حيث نصت على حرية الدول في استخدام المياه التي تمر عبر أراضيها من أجل أغراض التنمية، وضمن قواعد القانون الدولي. وعبرت المواد الأخرى في المعاهدة، مثل ضرورة إجراء الدراسات المشتركة لتحقيق التعاون بين الدول المعنية، وواجب التفاوض لعقد معاهدات الاستخدام الأمثل لمصلحة جميع الأطراف، عن بعض هذه القواعد، وتركت آثارها في إعلان مونتيغدو الخاص بالأنهار الدولية لعام 1933، والميثاق الأوروبي للمياه لعام 1967.

لا تشكل جميع هذه المعاهدات، نظراً لجزئيتها ونسبيتها، قواعد قانونية دولية شاملة، إلا أن من الممكن عن طريق القياس استنباط بعض القواعد الجنينية التي تأخذ قانونيتها عبر ممارسات الدول في معاهداتها الدولية والإقليمية، كما أكدتها مصادر القوانين الدولية الأخرى.



ومع أنه لا يمكن اعتبار المعاهدات الثنائية والإقليمية، قواعد قانونية عامة، لكونها ملزمة لأطرافها فقط، إلا أن وجود أكثر من مائتين وخمسين معاهدة، نشرت الأمم المتحدة أحكامها، حتى عام 1963م، وتوقيع خمسين معاهدة فيما بعد تنظم استخدام الأنهار الدولية، وكثرة اللجوء إلى التحكيم في هذا المجال، تشكل دليلاً بعدم قانونية التصرف الانفرادي في المياه الدولية، وأن هناك قواعد تحكم استعمالها. إن كثرة المعاهدات الثنائية، وبالمبادئ نفسها، يمنحها شرعية، تجعلها بمثابة العرف الذي تمت ممارسته عبر معاهدات يشوبها الشعور بتطبيق القواعد القانونية، وبما ينسجم مع متطلبات القانون الدولي.

وقد نص عدد كبير من المعاهدات الثنائية صراحة على ذلك، كمعاهدة النرويج مع السويد عام 1950، التي أشارت إلى أنها تمت "وفقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي". وجاء في تقرير مقدم من لجنة القانون الدولي أن هناك قواعد عرفية للقانون الدولي، لها قوة القانون متى كانت هناك أحكام مماثلة في عدة معاهدات. ويشير تقرير اللجنة الاقتصادية لأوروبا إلى أن حل المشكلة نفسها بالطريقة نفسها في عدد من المعاهدات يؤدي إلى الاستنتاج أن هذا الحل منسجم مع مبادئ القانون الدولي المعترف بها.

ويمكن أن تعتبر المراسلات الدبلوماسية، وموقف المنظمات الدولية، في ما يتعلق بموضوع المياه أعرافاً دولية لها قوة القانون، كما وردت في رسالة من حكومتي هولندا وبلجيكا عام 1862م، إلى وزرائهما المفوضين في لندن وباريس جاء فيها: "إن نهر الموز نهر مشترك لهولندا وبلجيكا، غني عن القول إنه يحق للطرفين استخدام مياهه. وفي الوقت ذاته، على كل طرف وفقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي أن يمتنع عن أي عمل يسبب ضرراً للطرف الآخر".

ويورد الدكتور بدر الكسم مؤلف كتاب "القواعد القانونية للأنهار الدولية" أسئلة كثيرة عما يعرف بالعرف الدولي بخصوص استخدام الأنهار، ومنها قرارات الأمم المتحدة التي تنص على قواعد قانونية في هذا الموضوع، تشكل قواعد عرفية. وكذلك ما جاء في وثائق محكمة العدل الدولية من أن الوسيلة التراكمية لتكوين العرف تلعب دوراً مهماً في تطوير القانون الدولي، ما دامت معبرة عن قناعة الدول بالتزام قواعد معينة. هكذا تصبح الأعراف مع التكرار قواعد ملزمة وقوانين غير مكتوبة تدعمها التجربة، بينما المبادئ العامة غالباً ما تكون أكثر تجريداً.

ومع الإقرار بسيادة الأعراف الدولية بدلاً من القوانين المكتوبة، في ما يتعلق بقضايا الأنهار، فإن هناك مبادئ عامة تنطبق على قضية المياه وغيرها، وأهمها مبادئ حسن الجوار والنية، وعدم الإضرار بالغير، وتنفيذ الالتزامات التعاقدية، وعدم التعسف، وحل المنازعات سلمياً والتفاوض عند الخلاف. أما المبادئ الخاصة بذلك فهي مبدأ التوزيع المنصف للمياه الدولية، والمساواة في حق استعمالها. ومن الممكن اعتبارها مبادئ وقواعد قانونية تستند في تطبيقها إلى مصادر أخرى من القانون الدولي. وهذه المصادر تتنوع وتتعدد، وبضمنها جملة الأحكام القضائية الدولية التي تلعب دوراً مهماً في تحديد القواعد القانونية السارية على المياه. وفي هذا الصدد، يلجأ القضاة الدوليون إلى أحكام سابقة للتدليل عليها.

وفي ما يخص موضوع المصادر الدولية التي يفسر بموجبها القانون، يرى كبار المتخصصين أن هناك ثلاث فئات تتعلق بالمياه الدولية: الكتابات الفردية لكبار رجال القانون في العالم، ودراسات مؤسسات القانون الدولي غير الحكومية، العاملة على الصعيدين العالمي والإقليمي، وقرارات المنظمات الحكومية والعالمية وفروعها. إضافة إلى تقارير اللجان القانونية الدولية، وأعمال الأمم المتحدة. وتحتوي على قواعد مع التعليقات بالاستناد إلى مصادر القانون الدولي، ودراسات الوكالات المتخصصة حول الموارد الطبيعية. ومنها أعمال اليونيسكو والبنك الدولي، وكذلك دراسات المنظمات الحكومية الإقليمية حول موضوع الأنهار الدولية من عام 1967-1980م، حيث قدمت خلالها عدة مشاريع لقواعد قانونية، يضاف إليها إعلان دمشق عن الأمن المائي الذي انعقد برعاية لجنة التنمية الاقتصادية والاجتماعية غرب آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة عام 1989، ويحتوي على مبادئ قانونية، تتضمن حقوق الدول المشاطئة والدعوة إلى التعاون لحل أي مشكلة بهذا الخصوص.

وإذا ما حاولنا أن نطبق هذه الأعراف القوانين على المنهج "الإسرائيلي" في سرقة مياه الأرض المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، وتحويل مياه نهر الأردن وروافده، فسنصل إلى نتيجة مؤداها أن علاقة "إسرائيل" بالمياه العربية هي نتيجة احتلال ترفضه الأعراف والقوانين الدولية، وتدينه قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وأنها مطالبة بالانسحاب من تلك الأراضي بموجب مجموعة من القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، بما يعني أن تلك الإجراءات باطلة من أساسها.

خلاصة القول: إن ثمة تراثاً قانونياً وحقوقياً دولياً وإقليمياً، يقدم أمثلة لحل مشاكل المياه بين الوطن العربي والدول المجاورة له. وهذه القواعد إضافة لكونها توفر حلولاً سلمية للقضايا المختلف عليها، فإنها تسهم في تدعيم الأمن والسلام وتحقيق الرخاء للجميع.