النتائج 1 إلى 4 من 4
الموضوع:

رقابة القضاء على أعمال الإدارة

الزوار من محركات البحث: 2783 المشاهدات : 6259 الردود: 3
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من أهل الدار
    الصبر كميل يا زكية
    تاريخ التسجيل: August-2012
    الدولة: مُرني
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 14,218 المواضيع: 2,060
    صوتيات: 2 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 6130
    مزاجي: كده..اهو ^_^
    آخر نشاط: منذ 4 يوم

    رقابة القضاء على أعمال الإدارة

    رقابة القضاء على أعمال الإدارة
    لقد كان الخير والشر والتقدير، وجود الخليقة وان السعي لإيجاد التوازن بينهما كان الشاغل الأكبر للمفكرين والفلاسفة جميعهم ، فكان مبدأ العدل هو السبيل لولادة القوانين جميعها والحكم بموجبها في منازعات الأفراد وخلافاتهم الأمر الذي تطلب قيام مؤسسات قضائية واسعة وكبيرة وأحيانا متخصصة يعمل بها عدد كبير من القضاة تناط بهم مسؤولية القضاء والحكم بين الناس وفض منازعاتهم وتطبيق حكم القانون على الجميع.والقضاء معناه الصنع والتقدير، فيقال: قضى الشيء قضاء إذا صنعه وقدره (1).ويكون أيضا بمعنى الحتم والأمر كما ورد في قوله تعالى(وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه )(2).والقضاء في اللغة هو الإتقان والإطعام ، وفي الاصطلاح هو فصل الخصومات (3).



    أما الرقابة فتعني الرقيب الحافظ والمنتظر وبابه دخل وراقب الله تعالى أي خافه.(4)
    فالمقصود برقابة القضاء لاعمال الإدارة أن يتحقق القضاء من مدى مشروعية هذه الأعمال في مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون بمعناه الواسع .إذ لا يمكن للرقابة الإدارية أن تفي بالغرض المرجو من ضمان سيادة مبدأ المشروعية لان مرجع القرار قد يرفض الاعتراف بالخطأ ،وقد يجاريه رئيسه ، ولهذا فان رقابة الإدارة في كيفية ممارسة نشاطها يجب أن يعهد بها إلى القضاء الإداري (المحاكم الإدارية).(5)
    وعلى هذا الأساس فأن الرقابة القضائية هي من اكثر صور الرقابة على أعمال الإدارة أهمية ، ذلك لان القضاء هو الجهة المؤهلة لحماية مبدأ المشروعية من
    العبث به والخروج عن إحكامه ويقوم القضاء بمهمته هذه إذا ما توافرت له الضمانات الضرورية التي تكفل له الاستقلال في أداء وظيفته.(1)
    ومع ذلك تتمتع الإدارة بامتيازات عديدة لتمكنها من أداء وظائفها بفاعلية لمواكبة سعة وظائف الإدارة وامتداد نشاطها وتشعبها واتساع اختصاصها في توفير الأمن وحفظ النظام العام والاقتصاد وفي كل المجالات التي لايستطيع القطاع الخاص توفيرها ، وذلك عن طريق منح الإدارة امتياز السلطة التقديرية. (2)
    نخلص مما تقدم إلى أن الرقابة على أعمال الإدارة قد تتولاها المحاكم الاعتيادية فتختص بالفصل في المنازعات الإدارية والمنازعات الخاصة على سواء ، فلا يشاركها فيها غيرها ، وذلك على مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات وهذا في نظام القضاء الموحد.
    وقد يعهد بالرقابة على اعمال الإدارة إلى قضاء متخصص في المنازعات الإدارية وهو مايعرف بالنظام القضائي المزدوج ، ألا أن الأخذ بهذا النظام الأخير ، يقتضي إنشاء محكمة تختص بالفصل في أحوال التنازع التي قد تنشا نتيجة توزيع الاختصاص بين القضاءين .(3)


    لمبحث الأول (نظام القضاء الموحد)
    أن المقصود بنظام القضاء الموحد وجود جهة قضائية واحدة في الدولة هي جهة القضاء الاعتيادي، تتولى الفصل في أنواع المنازعات كافة سواء ماينشأ منها بين الأفراد أو بينهم وبين الإدارة. (1)
    وكذلك يقصد به أن تتولى السلطة القضائية ممثلة في محاكمها على اختلاف أنواعها ودرجاتها وعلى رأسها محكمة النقض مهمة الفصل في القضايا المدنية والإدارية جميعها سواء.وتكون ولاية السلطة القضائية في هذا المجال ولاية كاملة (مالم ينص الدستور على خلاف ذلك).(2)
    المطلب الأول : طبيعة الرقابة في نظام القضاء الموحد
    تخضع الرقابة القضائية للمبادئ المقررة في هذا الصدد واهمها أن القضاء لايمارس هذه الرقابة من تلقاء نفسه بل لابد من دعوى يحركها ذو مصلحة.(3)
    وتتطلب الرقابة القضائية لكي تجري بصورة سليمة اتباع إجراءات معينة ومواعيد محددة يحددها القانون حسب مقتضى الحال في كل نظام من الأنظمة القضائية.وبخلاف الرقابة الإدارية فلا تستطيع الجهة القضائية التي ترفع أمامها الدعوى ألا النظر فيها والسير في إجراءات التقاضي والامتناع عن ذلك يعد انكاراً للعدالة والامتناع عن الفصل في المنازعة المعروضة يعد جريمة يعاقب عليها القانون وتسمى جريمة إنكار العدالة. (4)
    والرقابة القضائية في صدورها هي رقابة قانونية تقتصر على بحث مشروعية أعمال الإدارة لمعرفة مدى مطابقتها لاحكام القانون بصفة عامة وبمعنى أخر ويقول الدكتور سليمان الطماوي ان الرقابة القضائية رقابة مشروعية بمعنى انه لاسلطان للقضاء على تصرف الإدارة المشروع مهما كانت درجة ملاءمته لمقتضى الحال في حدود فكرة الانحراف.(1)
    والمعتاد أن تنتهي المحكمة التي تراقب عمل الإدارة رقابتها هذه بإصدار حكم نهائي يحوز حجية الشيء المقضي فيه فلايمكن إثارة النزاع بشأنه من جديد. (2)
    ففي الدول ذات النظام القضائي الموحد توجد جهة قضائية واحدة (القضاء الاعتيادي) تنظر في المنازعات جميعا سواء أكانت إدارية أم تخص الأفراد مثل انكلترا أو أمريكا (3).ويفهم من طبيعة النظام الموحد تفسيره الخاص لمبدأ سيادة القانون الذي يقضي بخضوع الجميع سواء الأفراد أم الإدارة لقانون وقاضِِِِ واحد ، لذلك فأن اخراج المنازعات الإدارية من يد القاضي الاعتيادي يعد خرقا لهذا المبدأ ، مع الاخذ بالحسبان أن الإنكليز قد احسنوا الظن بقضائهم الاعتيادي.
    أما في حالة وجود جهة قضائية متخصصة في المنازعات الإدارية (قضاء اداري) أي وجود جهتين قضائيتين مستقلتين ، تكون الدولة ذات نظام قضائي مزدوج (4)
    كما هو الحال في فرنسا ومصر والعراق بعد صدور قانون (106) لعام 1989.ويتمثل الأساس الدستوري في تبني مفهوم خاص لمبدأ الفصل بين السلطات وهو الفصل بين الهيأت، أما الأساس التاريخي فيعود إلى المواقف السيئة للقضاء العادي تجاه الإدارة في فرنسا مهد القضاء الإداري.(5)
    يتضح من خلال ماتقدم أن الجذور التاريخية التي نشأ على اساسها كلا النظامين


    قد تركت اثارها في سلطة كل منهما ازاء الإدارة ، ففي نظام القضاء الموحد يخضع الأفراد والإدارة على السواء لحكم قانون واحد وقاضِِِ واحد ينظر في النزاع المعروض سواء كان اداريا ام بين الأفراد بمعنى انه ليس هناك امتياز للإدارة تجاه القضاء ومن ثم فأن القاضي الاعتيادي في الدول ذات النظام القضائي الموحد يمتلك سلطات واسعة ازاء الإدارة غير موجودة في القضاء في الدول ذات النظام القضائي المزدوج الذي يعترف بامتياز الإدارة واستقلالها تجاهه.(1)
    ومن التطبيقات على طبيعة الرقابة في نظام القضاء الموحد نأخذ صورة الرقابة في النظام (الانكلوسكسوني) وهو النظام الذي أخذت به إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وحذت حذوهم بعض الدول العربية مثل السودان والسعودية والعراق قبل صدور القانون (106) لعام 1989، إذ من المعلوم أن إنكلترا تأخذ بنظام القضاء الموحد ، فهي لاتعرف نظام ازدواج القضاء القائم على جهة قضاء اداري مستقلة عن جهة القضاء الاعتيادي ، بل يقضي القانون العرفي باختصاص المحاكم الاعتياديةبنظر المنازعات جميعا سواء نشأت بين الأفراد فحسب أو نشأت بينهم وبين الإدارة ، فلايخرج نزاع اداري من اختصاص المحاكم الاعتيادية ألا بناء على نص صريح في القانون.(2)
    ولايقتصر الأمر فيما يخص إنكلترا على عدم وجود قضاء إداري (أي محاكم إدارية للنظر في المنازعات الإدارية) وانما حصل خلاف فقهي بصدد القانون الإداري وهل يوجد في إنكلترا ام لا (3) ؟ فهناك جانب من الفقه يقول بعدم وجود قانون إداري في إنكلترا بإذ أصبحت مثالا واضحا للدولة التي يخلو نظامها القانوني من قواعد القانون الإداري .ولكن فريقا أخر من الفقه يرى أن إنكلترا تعرف القانون الإداري مثل غيرها ، وان وجود ذلك القانون بها مسألة واضحة لايصح أن تكون محل جدل .وعلة هذا الخلاف في الرأي ترجع إلى اختلاف الفقهاء في بيان المراد بالقانون الإداري ، فالفقهاء الذين يقصدون بالقانون الإداري مجموعة من القواعد القانونية الخاصة تطبقها محاكم خاصة (إدارية) مستقلة عن المحاكم الاعتيادية ، ينكرون –بناء على هذا التفسير- وجود قانون أدارى في إنكلترا لعدم وجود محاكم إدارية فيها.
    والفقهاء الذين يرون في القانون الإداري مجموعة القواعد الخاصة بتنظيم عمل وسير المصالح العمومية يؤكدون وجود قانون أداري في إنكلترا . والواقع أن مسألة وجود قانون أدارى في دولة ما لايجوز أن تتوقف عند انشاء محاكم خاصة لتطبيق قواعده لان ذلك يعد امرا شكليا ليس له اثر في تحديد خصائص القواعد القانونية الموضوعية ، ومع ذلك إذا قيل بان إنكلترا دولة تخلو من القانون الإداري فمرد ذلك ليس إلى عدم وجود قضاء اداري فيها ، بل إلا أن الإدارة غير المسؤولة (1) وهي قاعدة عامة عن اعمالها في مواجهة الأفراد ، وإذا ماسؤلت على سبيل الاستثناء عن بعض اعمالها فأنها تخضع بخصوص هذه المسؤولية إلى القواعد القانونية التي تنظم العلاقات بين الأفراد .وعلى ذلك فأن وجود مصالح عمومية تقوم بالأعمال الإدارية في الدولة لايكفي للقول بوجود قانون أداري فيها.(2)
    والقضاء الإنكليزي فضلا عن المنازعات القائمة بين الأفراد ، يتولى النظر في الدعاوى كافة التي ترفع في مواجهة الإدارة ، ألا ما استثني منها بنــــص


    القانون .(1) وتتسع سلطة المحاكم في إنكلترا على أعمال الإدارة ، فلاتقتصر على مراقبة مشروعية هذه الأعمال ، وانما يمكن أن تتناول ملاءمتها وتصل إلى حد توجيه اوامر إلى الإدارة بالقيام بعمل معين أو الامتناع عنه. حتى أن بعض الفقهاء يشبه سلطة القضاء البريطاني على الإدارة بالسلطة الرئاسية.ومظهر الرقابة القضائية على القرارات الإدارية فيها هو قضاء التعويض فحسب في المنازعات جميعا سواء نشأت بين الأفراد ، أو بينهم وبين الإدارة.
    ويرجع مبدأ عدم مسؤولية الدولة في إنكلترا إلى قاعدة قديمة مضمونها أن الملك لايخطئ. وبما أن الدولة تندمج في التاج أو تتجسد في الملك ، فان الدولة أيضا لاتخطئ ومن ثم لاتثور مسؤوليتها.هذا فضلا عن إلى أن العلاقة بين الموظف والدولة في إنكلترا تعد (2) علاقة تعاقدية تستند إلى فكرة الوكالة ، والموكل لايسال عن أخطاء الوكيل لان هذه الأخطاء تخرج عن نطاق الوكالة .
    غير أن مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أخطاء موظفيها و مايتبعه من مسؤولية الموظفين الشخصية قد دخلت عليه استثناءات عديدة لطفت من حدته وخففت ما يمكن أن ينشأ عنه من نتائج غير محمودة.
    غير أن تزايد المنازعات الإدارية المصاحب لتضخم وظائف الدولة في المملكة المتحدة الحديثة قد دفع إلى تكوين لجان إدارية خصها المشرع بالفعل ببعض المنازعات الإدارية فخرجت بذلك من ولاية القضاء ، وهذا الاتجاه الجديد في المملكة المتحدة ينادي بإقامة قضاء أداري متخصص يكون اكثر قربا من طبيعة المنازعات الإدارية ولو كجهة استئناف لقرار اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي(3)
    أما فيما يخص طبيعة الرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية فانه من المعلوم أن أمريكا تأخذ بصفة عامة بالنظام الإنكليزي.فالمحاكم الاعتيادية هي التي تختص بنظر المنازعات جميعا إدارية كانت أم مدنية ،ونظام المحاكم الإدارية غير معروف ، وكذلك تأخذ بمبدأ مسؤولية الموظف الشخصية عما يسببه من ضرر للأفراد .كما أن القاضي الأمريكي يتمتع في مواجهة موظفي الإدارة بالسلطات الواسعة التي يمارسها القاضي الإنكليزي ، فيملك إصدار أوامر مكتوبة اليهم بعمل شئ أو بالامتناع عن عمل شئ أو تبديل قراراتهم .(1)
    لقد بلغ التشابه بين النظامين الإنكليزي والأمريكي اقصاه باعتناق القانون الأمريكي لمبدأ عدم مسؤولية الدولة الذي كان سائدا في إنكلترا ، والذي كان سنده هناك قاعدة أن الملك لايخطئ ، ومن الغريب أن يعتنق القانون الأمريكي هذا المبدأ الذي لايتصور وجوده ألا في الملكيات.
    لقد كان هذا المبدأ يستند في الولايات المتحدة الأمريكية – فيما يستند اليه – إلى أساسين ، أحدهما تأريخي والأخر قانوني. فمن الناحية التاريخية يعد هذا المبدأ من المبادئ التي ورثتها الولايات المتحدة الأمريكية وتلقتها من القانون العرفي الإنكليزي منذ عهد الاستعمار.
    ومن الناحية القانونية ، ذهب أحد كبار رجال القضاء الأمريكي إلى أن القانون من صنع الدولة وخلقها ، ومن ثم تقضي الضرورة المنطقية بان لاتكون مقيدة به.
    ويمثل هذا الرأي صدى لما كان يستند اليه الملوك قديما في تبرير سلطانهم المطلق وفي صراعهم ضد الكنيسة والمجالس النيابية والشعوب ، حتى انه يتعارض مع النظريات الحديثة التي اعتنقتها وطبقتها المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ، والتي مؤداها أن السيادة ليست للدولة أو للسلطات الحاكمة فيها ، وانما هي من الشعب والى الشعب.(2)




    وفيما لانجد تفسيرا لاعتناق المبدأ المذكور في الولايات المتحدة الأمريكية ألا في الاساس التاريخي .ولاريب في أن الذي حدا بأمريكا إلى انتهاج هذا السبيل الذي أوقعها في الخلط المشار أليه هو نظرتها غير السليمة إلى مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات ، إذ أنها تأخذ في الأقل من الناحية النظرية بمبدأ الفصل المطلق التام بين السلطات ، ومثل هذه النظرة توحي لها وتؤكد أن ترك تقرير مسؤولية الدولة للسلطة القضائية يتضمن اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية وهذا غير صحيح في واقع الأمر(1).
    أما في العراق وكما هو معروف من الخلفية التاريخية لطبيعة الرقابة على أعمال الإدارة فانه كان خاضعا لنظام القضاء الموحد في مرحلتي الحكم العثماني والاحتلال البريطاني وجزء من مدة الحكم الوطني وهذا ما سنتناوله في فصولنا اللاحقة.(2)


    المطلب الثاني :مجالات الرقابة في نظام القضاء الموحد
    في الأصل أن كل قرار أداري نهائي يصدر من السلطة التنفيذية يخضع لرقابة القضاء اعمالاً لمبدأ المشروعية وسيادة القانون. ألا انه يستثنى من هذا الأصل قرارات تتصل بسيادة الدولة الداخلية او الخارجية لأنها لاتقبل بطبيعتها أن تكون محال لدعوى قضائية ، ومن ثم تخرج عن ولاية القضاء .وتعد الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بوصفها سلطة حكم من قبيل أعمال السيادة ، والأعمال التي تقوم بها بوصفها سلطة إدارة أعمالا إدارية.(3) ولاجل معرفة مجالات الرقابة في ظل هذا النظام لابد لنا من أن نستعرض سلطة القضاء ومجالات الرقابة في ذات البلاد التي تأخذ بنظام القضاء الموحد.


    اولا: مجالات الرقابة في النظام الإنكليزي:-
    يملك القاضي سلطانا واسعا في مواجهة موظفي الإدارة ، ذلك أن القاضي يستطيع الحكم على الموظف المدعى عليه عقوبة جنائية إذا اتضح أن الفعل المنسوب اليه يكون جريمة جنائية كما يحكم عليه بالتعويض مادامت اركان المسؤولية المدنية متوافرة ، ولايقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى توجيه اوامر مكتوبة إلى الموظفين تتضمن الزامهم بعمل شئ أو الامتناع عن عمل شئ أو تعديل قراراتهم (1) أو طلب إلغائها.
    وهكذا نجد سلطة القضاء في إنكلترا تختلط بسلطة الرئيس الإداري إذ انه لايبسط سلطته فقط في حالة مخالفة القانون ، وانما يتدخل في نطاق الملاءمة فيأمر الموظف بأداء ما توجبه الآداب العامة ،أو الامتناع عما يكون غير منطقي وغير لائق ، ويوجه الموظفين ويرشدهم إلى واجباتهم وطريق أدائها على الوجه الأكمل ، فضلا عن ذلك حقه بالتعقيب على تصرفاتهم بتعديلها أو سحبها أو إلغائها ، ولدى القضاء من الوسائل القانونية مايمكنه بوساطته إجبار الإدارة على احترام أرادته وتنفيذ أوامره واحكامه.
    وهذا الوضع الذي يوجد فيه القضاء بسلطانه الكبير ازاء الإدارة يؤدي إلى عد الإدارة هيأة تابعة للقضاء ، خاضعة لسلطانه ، الأمر الذي حمل بعض الفقهاء إلى نعت الإدارة في إنكلترا بالإدارة القاضية ، بسبب هيمنة القضاء عليها.(2)
    وعلى هذا الأساس تختص المحاكم الاعتياديةفي إنكلترا اساسا بالفصل في المنازعات المدنية والإدارية على سواء ، وتطبق في ذلك القانون العرفي.بيد أن الشارع اتجه في الوقت الأخير إلى ايكال مهمة الفصل في بعض الخصومات الإدارية إلى مجالس أو هيئات تعد بمثابة محاكم إدارية مستقلة عن المحاكم الاعتيادية، وتكون أحكامها نهائية لايجوز الطعن فيها أمام اية جهة قضائية.(1)
    والمحاكم الاعتياديةاضحت صاحبة الولاية العامة بالنسبة إلى المنازعات الإدارية التي يسند القانون أمر الفصل فيها إلى محاكم إدارية خاصة.(2)
    وتفرق المحاكم الاعتيادية في انكلترا في تحديد اختصاصها في نظر المنازعات الإدارية بين شخصية الدولة وشخصية الوحدات الإدارية الاقليمية. فبينما تقضي بعدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها ، فلاتختص من ثم ألا بالنظر في الدعاوى الموجهة للموظفين بصفتهم الشخصية ، نراها تقرر اختصاصها بنظر المنازعات التي تنشأ عن مباشرة الوحدات الإدارية الاقيلمية لنشاطها واحتكار هذا النشاط وحقوق الأفراد .وتقوم هذه التفرقة على اساس المبدأ القائل ((أن الملك لايخطئ)) وما يرتبه ذلك المبدأ من عدم مسؤولية الدولة ومن ثم عدم مسؤولية الإدارة المركزية عن أعمال موظفيها .وحكمة ذلك تتحصل في أن التاج لايخطئ ، فإلى جانب هذا التفسير لمبدأ عدم مسؤولية الدولة الذي تقدم ذكره ،لقد قرر الفقهاء والقضاء الإنكليزيان تفسيرا يتصل بطبيعة العلاقة التي تربط الموظف بالدولة ، فعدها علاقة تعاقدية ،وتحديدا عقد وكالة، فان جاوز حدود الوكالة كان الوكيل وحده هو المسؤول عن هذا التجاوز.
    واستنادا إلى ذلك ، قالوا بعدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها التي ترتب ضررا للغير بسبب خطئهم ، لان مثل هذه الأعمال تعد خارجة عن حدود الوكالة.(3)
    ويترتب على مبدأ عدم مسؤولية الدولة لتحديد مجالات الرقابة في هذا النظام :
    1. تختص المحاكم الاعتياديةبنظر الدعاوى التي ترفع ضد الوحدات الإدارية الاقليمية ، وذلك لانها تتمتع بشخصية معنوية مستقلة عن شخصية الدولة ، ومن ثم تخضع أعمال موظفي هذه الوحدات الاقليمية لمبدأ المسؤولية ، مع مايترتب على ذلك من اختصاص المحاكم الاعتيادية بنظر المنازعات التي ترفع ضد هذه الوحدات المحلية والرقابة عليها.
    2. تختص هذه المحاكم بنظر المنازعات التي ترتب مسؤولية الدولة التعاقدية ولكن يشترط في هذه الحالة الحصول على اذن التاج مقدما ، ويجري ذلك على وفق الإجراءات طلب الحق الصادر عام 1860.
    3. لاتختص المحاكم الاعتيادية بنظر الدعاوى التي ترتب مسؤولية الدولة التقصيرية استنادا إلى مبدأ عدم مسؤولية التاج .ولذا ليس من سبيل امام الفرد الذي أصابه ضرر من عمل الموظف ألا أن يرفع دعواه ضد الموظف بصفته الشخصية ، فإذا استبان للمحكمة أن الضرر الذي أصاب المدعي كان نتيجة خطاء الموظف ، قضت على هذا الأخير بالتعويض على أن يلتزم بدفعه من ماله الخاص ، بيد أن العرف جرى على أن تتولى الدولة دفع التعويض عنه ، لا على اساس التزامها القانوني من جانبه ، وانما من باب الشفقة والمعونة (1) مع العرض ان الشارع حرص على حماية الموظفين من خطر مقاضاتهم في أي وقت ، ومنع الدعاوى الكيدية ، فاصدر قانون حماية السلطات العامة عام 1893 المعدل بالقانون الصادر عام 1939 .وقد تضمن هذا القانون قيدين على حق الأفراد في مقاضاة الموظفين : احدهما يتمثل في وجوب رفع الدعوى خلال عام من تاريخ وقوع الفعل الضار ، وثانيهما ، يتمثل في الحكم على المدعى عليه الذي خسر دعواه بغرامة جسيمة.
    غير أن الحكم للمدعى بالتعويض على الموظف بصفته الشخصية قد لايفي تماما بحقه ، ولذا اجيز له في هذه الحالة أن يرفع دعواه إلى القضاء طالبا اصدار اوامر مكتوبة إلى الموظف المدعى عليه بالقيام بعمل كان قد امتنع عن القيام به ، أو الامتناع عن عمل كان مقرراً القيام به ، أو الغاء قرار أو تعديله ، أو الغاء قرار صدر عن موظف اغتصب الوظيفة أو اغتصب امتياز مشروع من دون وجه حق ، أو الأمر بالافراج عن شخص قبض عليه على خلاف القانون.(1)
    هذه هي الأسس العامة والخطوط العريضة التي تحكم مجالات الرقابة في هذا النظام وكذلك العلاقة بين الإدارة والقضاء في إنكلترا.(2)


    المبحث الثاني: نظام القضاء المزدوج
    يتمثل هذا النوع في النظام القائم في فرنسا والبلاد التي أخذته عنها.(3) ومن خلال دراسة اسس الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في القانون المقارن ، نجد أن بعض الدول تكتفي بأن توكل مهمة الفصل في المنازعات الإدارية إلى الجهة القضائية الموحدة القائمة ، وذلك إلى جانب اختصاصها بالفصل في المنازعات بين الأفراد ، في حين اتجهت دول أخرى وهي تتزايد بشكل مطرد مثل فرنسا إلى انشاء جهة قضائية مستقلة تختص بالفصل في المنازعات الإدارية ممثلة بمجلس الدولة وهو مايؤدي إلى ازدواج القضاء في تلك الدول إلى جهتين القضاء الإداري والقضاء الاعتيادي .(4)
    ولمعرفة اساس الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في ظل نظام القضاء المزدوج ، فأننا سنتناول هذا الموضوع في مطلبين ، الأول خصصناه لبحث نشأة القضاء الإداري والثاني لبحث نشأة دعوى الالغاء.








    المطلب الأول : نشأة القضاء الإداري
    لاخلاف بين الفقهاء من كون فرنسا هي مهد هذا النظام وبلده الاول وهي الدولة الوحيدة التي اكتمل فيها نظام القضاء الإداري أو قارب التمام.(1)
    وعلى هذا الأساس سنبحث فيما ياتي نشأة القضاء الإداري في فرنسا اولا ، ثم في مصر بوصفه أهم بلد عربي اخذ بهذا النظام واسهم في اقامته ونشره في سائر البلاد العربية ومنه العراق.
    1. نشأة القضاء الإداري في فرنسا:-
    يقوم هذا النظام كما نعلم على ازدواج القضاء ، ومرد ذلك إلى تفسير خاص لمبدأ فصل السلطات الذي اعتنقه رجال الثورة ، واعتبار أن اخضاع اقضية الإدارة لاختصاص المحاكم القضائية يخل في استقلال الإدارة في مواجهة السلطة القضائية وهو السبب الحقيقي الذي حدا برجال الثورة الفرنسية إلى اعتناق هذا المبدأ وماترتب عليه من صدور قانون 16-24 اغسطس 1790 الذي يحرم على السلطة القضائية التعرض إلى اقضية الإدارة .ويقوم هذا النظام أيضا من وجهة نظر د.محمود محمد حافظ على اساسين (احدهما دستوري والاخر تأريخي) ، فهو من ناحية يعد في نظر مبتدعيه تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي نادى به (مونتسكيو) واعتنقه مشرعو الثورة الفرنسية ، ومن ناحية أخرى يعد رد فعل لسلطة المحاكم في ظل العهد القديم السابق على الثورة ، واعتداءاتها المتكررة على الإدارة وعرقلة نشاطها.(2)
    فيما يخص الأساس الأول ، نلاحظ أن الفرنسيين يفسرون مبدأ فصل السلطات تفسيرا خاصا ، ادى بهم إلى فصل الهيأت الإدارية عن الهيأت القضائية فصلا تاما ، فالمقصود بفصل السلطات في نظرهم استقلال احداهما عن الأخرى استقلالا تاما .ومقتضى هذا ألا تخضع الإدارة للمحاكم الاعتيادية .وهذا يخالف التفسير الذي اخذ به الانكلوسكسون لمبدأ الفصل بين السلطات ، فلايقصد به في تقدير هؤلاء


    سوى تخصص كل سلطة في وظيفة معينة.ومن ثم طبقوا نظام القضاء الموحد ولم يجدوا فيه أي اخلال بمبدأ فصل السلطات .أما الأساس التاريخي ، فرجال الثورة الفرنسية كانوا يحملون آسواء الذكريات عن المحاكم القديمة التي كانت تسرف في التدخل في أعمال الإدارة الملكية، لذلك كان من اوائل القرارات التي اتخذتها الجمعية الوطنية التأسيسية الغاء هذه المحاكم.(1)
    لكن رجال الثورة وقد استبعدوا اختصاص المحاكم القضائية ، قد وقفوا في منتصف الطريق ، فلم ينشؤوا محاكم إدارية للفصل في اقضية الإدارة ، بل عهدوا بالنظر في تلك القضايا إلى الإدارة نفسها مما يعرف بأسم (نظام الإدارة القاضية) وقد تطور هذا النظام حتى وصل إلى نظام المحاكم الإدارية الحالية على النحو الاتي :-
    بدأ رجال الثورة الفرنسية في أول الأمر بأن عهدوا بهذه المهمة القضائية إلى بعض رجال الإدارة العامة مثل الوزراء وكبار حكام الأقاليم. (2) وعلى الرغم من غرابة هذا الوضع الذي يجعل من الإدارة خصما وحكما ، فقد كان مقبولا في ذلك الوقت لما كان عالقا بالأذهان من ذكرى طيبة خلفها كبار الموظفين الذين كانوا يرسلهم الملك في الأقاليم ويعهد اليهم باختصاصات .
    وقد استمر الحال هكذا حتى جاء نابليون في العام الثامنة للثورة وانشأ بجوار الإدارة العامة هيئات استشارية مثل مجلس الدولة الذي نص عليه دستور العام الثامنة في المادة (52) ومجالس الأقاليم.وقد عهد إلى هذه الهيأت بالنظر في قضايا الإدارة .وكانت هذه الخطوة في غاية الاهمية لما تضمنته من فصل الوظيفة القضائية عن الإدارة العامة مع اسنادها إلى هيئات متخصصة .غير أن تلك الهيأت لم تكن تفصل في القضاء ، ولكنها كانت تقترح حلا يقدم إلى الرئيس الإداري لاعتماده .وكل ماهناك أن الرئيس الإداري كان يعتمد هذا الحل بصفة الية تقريبا وكان يطلق على هذه المرحلة التي استمرت حتى عام 1872مــرحــلـة


    (القضاء المحجوز).(1)
    وفي 24 /مايس/ عام 1872 صدر قانون صحح الوضع القانوني ، بأن جعل من مجلس الدولة محكمة تصدر أحكاما ، فأنتقل من مرحلة القضاء المحجوز إلى مرحلة القضاء المفوض(2) .فلم تعد أحكامه بحاجة إلى تأييد من السلطة الإدارية ، وانما أصبحت ملزمة بصدورها .كما إنشاء المشرع محكمة التنازع لحسم إشكاليات الاختصاص بين جهتي القضاء الاعتيادي والاداري.
    غير أن اختصاص مجلس الدولة ، ظل مقيدا حتى أواخر القرن التاسع عشر بناء على نظرية الوزير القاضي التي ظلت سائدة حتى ذلك الوقت.ذلك أن الفقه والقضاء في فرنسا قد فسرا التجديدات التي جاء بها الفصل الأول في العام الثامنة(إنشاء مجلس الدولة ومجالس الأقاليم) على انها لم يقصد بها إلغاء نظام الإدارة القاضية ، وانما بمجرد انشاء هيئات أخرى بجوار الإدارة العامة لتختص بالنظر في القضايا الإدارية .وقد ترتب على هذا النظر أن بقيت الإدارة هي نفسها الجهة القضائية ذات الاختصاص العام في المنازعات الإدارية ألا إذا نص القانون على ذلك صراحة.وفي غير تلك الحالات يلتزم الأفراد بان يلجؤوا إلى الوزير اولا بوصفه قاضي القانون العام.(3)
    ويقول الأستاذ (فالين) ،ففي خلال سبعين عاما ، لم تحصل ألا حالتان فحسب رفض فيهما رئيس الدولة اعتماد رأي مجلس الدولة (4) ثم إلى مجلس الدولة بوصفه هيأة استئنافية .وظل الحال على ذلك حتى 13 ديسمبر 1899حين عدل مجلس الدولة عن هذا التفسير ، وقضى على نظرية الوزير القاضي بحكمه الشهير في قضية ((Cadot الصادر في 13/12/1889إذ قبل الدعوى المرفوعة من الأفراد مباشرة من دون المرور على الوزير اولا ، فاصبح المجلس قاضي القانون العام .(1) وظل يتمتع بهذه الصفة حتى فقدها في اول عام 1954 بمقتضى مرسوم 30 سبتمبر عام 1953 ،إذ كان لابد أثناء مراحل التطور الإداري في فرنسا من وجود بعض الثغرات ، واكتشافها وعلاجها من المشرع والقضاء كي تكون بمثابة دفعة جديدة نحو بناء نظام قضائي أداري متكامل .وقد كان من أهم العيوب التي ادت إلى تعديل عام 1953 كما اوضحها الأستاذ عادل عبد الباقي في ملاحظاته التي اوردها في تقريره عن تنظيم مجلس الدولة الفرنسي :
    1. أن القضاء وان كان يجب ألا يكون متسرعا ، فانه من ناحية أخرى يجب ألا يكون بطيئا ، وهناك حد إذا وصل اليه بطؤ القضاء فانه يتساوى مع عدم وجوده اصلا ، وقد حدث أن نظر مجلس الدولة الفرنسي في 14/5/1948 في نتائج حادثة كانت قد وقعت في 14/7/1914 ، وبعد مرور اكثر من ثلاثين عاما يقرر عدم اختصاصه ويطلب من المدعي اعادة طرح منازعته من جديد أمام المحكمة المختصة. وترتب على بطؤ القضاء أن حكم للممقاولة في عام 1951 بمبلغ مستحق له بمواجهة احدى البلديات نتيجة اشغال عامة كان قد عهد اليه بها في عام 1933.
    2. انه ليست هناك قيمة عملية في كثير من الحالات لابطال قرار أداري غير مشروع بعد سنوات عديدة طالما أن الطعن لم يوقف تنفيذ القرار .ومثاله منع اجتماع كان ينبغي أن يجري في يوم 25/2/1949 والغي قرار المنع في 25/1/1952.
    3. أن بعض السلطات الإدارية –لعلمها ببطئ القضاء الإداري-تنتهز هذا البطؤ وتصدر قراراتها بسوء نية طالما أن الالغاء القضائي لن يتحقق ألا في وقت متأخر يمكن خلاله أن تكون النتائج المقصودة من القرار قد تحققت ، كما انها قد لاتهتم بما يترتب على الالغاء المتأخر من نتائج وصعوبات .لان مرجع القرار قد يدخل في حسبانه ، انه عندما يتحقق الالغاء ، سيكون قد ترك وظيفته ، نظرا لكثرة القضايا التي اثقلت كاهله- قد زاد اتجاهه إلى تضييق قبول الدعاوى والى الحكم بعدم الاختصاص وكل ذلك في غير مصلحة المتقاضين.لذلك استوجب الأمر تعديل 1953 للقضاء على بطئ الإجراءات واعادة التوزيع بين مجلس الدولة والمحاكم الإدارية التي حلت محل مجالس الاقاليم .(1)
    2.نشأة القضاء الإداري في مصر:-
    لقد زخرت المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التي تناولت بالبحث موضوع القضاء الإداري في مصر ، واود إلى أن اشير إلى انني سأكتفي بعرض تاريخ نشأة القضاء الإداري في مصر ضمن اطار مرحلة القضاء المزدوج، من دون الخوض في التفاصيل لانها تبعدنا عن اطار البحث.
    لايخفى أن مصر من البلدان التي أخذت في تنظيم الرقابة القضائية شوطا طويلا ، إذ انها مرت في سبيل تحقيق ذلك بثلاث مراحل تاريخية تباينت فيها أنظمة ومؤسسات الحكم .وتتمثل المرحلة الأولى في ولاية المحاكم الاعتيادية اهلية /مختلطة بالفصل في المنازعات جميعا ، دون تفرقة بين الاعتيادية منها أو الإدارية ومن ثم اقترب النظام في هذه المرحلة في المظهر بالنظام القضائي الموحد (2) .ويلاحظ على القضاء الإداري خلال هذه المرحلة انه غير واضح المعالم ومندمجا في القضاء الاعتيادي.
    فعندما اصبح مجلس الدولة الفرنسي يمارس القضاء المفوض ابتداء من عام 1872 وبدأت محاسنه وحمايته للافراد تتجلى ، اصدرت الحكومة المصرية امرا
    عاليا عام 1879 أنشأت بمقتضاه مجلس الدولة لاول مرة في مصر .وشكل هذا المجلس من مستشارين مصريين واجانب على النمط الفرنسي .ويجب وفقا لقانون إنشائه أن يؤخذ رايه في مشروع القوانين التي تعرضها الوزارات على مجلس ،كما يختص بأعداد مشاريع القوانين واللوائح الإدارية التي تطلبها الحكومة ، ويبدي رايه في المسائل القانونية وشؤون المصلحة العامة التي يعرضها مجلس الوزراء .كذلك انيط به ،كلما طلب ذلك رئيس الدولة أو أحد الوزراء، حل المشاكل التي تقع بين الوزارات فيما يتعلق باختصاصاتهم المستمدة من القوانين واللوائح أو التي تتصل بتطبيق القوانين .
    وإذا كان قيام المحاكم المختلطة عقبة إلى حد ما في الاخذ بنظام القضاء الإداري ، فانه إلى حد مافي الأخذ بنظام القضاء الإداري ، فانه بعد ابرام معاهدة منوترو الخاصة بإلغاء الامتيازات الأجنبية والتي كانت تنص على جواز تقاضي الأجنبي لدى المحاكم المصرية غير المختلطة متى قبل ذلك.
    وقد تجدد الأمل في إنشاء مجلس دولة مصري على غرار مجلس الدولة الفرنسي.وبدأت المحاولة عام 1939 بأن أعدت لجنة قضايا الحكومة مشروعا بانشاء مجلس الدولة.ولكنه لم يخوله ولاية القضاء المفوض فيما يتعلق بإلغاء القرارات الإدارية المعيبة ، بل جعل ذلك مقيدا بتأييد مجلس الوزراء على نحو ماكان متبعا في فرنسا في اول الأمر.ولكن هذا المشروع (على الرغم من تواضعه) ظل معلقا حتى عام 1941 ، وفي هذا العام اعدت لجنة القضايا مشروعا أخر يمنح المجلس المقترح سلطة الغاء القرارات الإدارية بسبب تجاوز السلطة من دون الحاجة إلى تأييد من سلطة أخرى .وقد تعطل هذا المشروع أيضا حتى عام 1945. وفي هذا العام تقدم أحد النواب وتبنى مشروع عام 1941 وتقدم به إلى مجلس النواب فأحاله بجلسة 16 ابريل عام 1945 إلى لجنة الشؤون التشريعية لنظره بطريق الاستعجال .فتقدمت الحكومة من جانبها بمشروع مضاد احاله المجلس إلى ذات اللجنة ذاتها في 29 ابريل 1946 .واتخذت هذه اللجنة هذا المشروع الأخير اساسا للمناقشة.وهكذا صدر القانون رقم 112 لعام 1946 بانشاء مجلس الدولة المصري (1) فخرجت مصر من نظام القضاء الموحد إلى النظام القائم على ازدواج القضاء وولد المجلس المصري كاملا من دون أن يمر بتلك المراحل الطويلة التي قطعها مجلس الدولة الفرنسي حتى وصل إلى وضعه الراهن. (2)
    ولتوضيح صورة مجلس الدولة المصري بشكل مفصل يقول الدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري ((مجلس الشورى المصري نشا في احضان البرلمان ، ورأت فيه السلطة التنفيذية منافسا لها وقدرت بانه سيكون دولة داخل دولة ، وانه سلطة رابعة إلى جانب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بل فوق السلطات ، وان السلطة التنفيذية ستصبح داخلة في وصايته ، وانه بما يملك من إمكانية ابطال القرارات الإدارية سيخل بالمسؤولية الوزارية أمام البرلمان ، وانه سيسلب مجلس الوزراء سلطته في التأويل التشريعي الذي تخوله اياه القوانين ، وحقه في فض المنازعات التي تقوم بين الوزارات ويفسر امور الموظفين واستقامة العمل في المصالح ، بل انه سيتعدى على اختصاص المحاكم وستتركز فيه سلطات لم تمنح لاحد من قبل، فإنشاؤه من اجل ذلك مخالف للدستور)) وذلك لان الشعور بأن عملا اداريا ينسب إلى الوزير أو إلى رئيس المصلحة يمكن أن يتعرض للنقد والتجريح في المحاكم ، وان الحكم بمخالفته للقانون سيتبع القضاء بتعويض تدفعه خزانة الحكومة، بل قضاء بابطال مايمس كرامة الحكام وهيبة الإدارة. (1)
    ولذلك نقول صحيح أن صدور القانون رقم 112 لعام 1946 حسم الأمر وجعل مصر تتبع نظام القضاء المزدوج ألا أن موضوع الولاية العامة للقضاء الإداري بالفصل في المنازعات استوجب صدور تعديلات عديدة كان اخرها صدور القانون رقم 47 لعام 1972 الذي بموجبه جرى اعادة تنظيم مجلس الدولة والذي خول القاضي الإداري المصري بنظر المنازعات الإدارية ، إذ نصت المادة العاشرة ((تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المنازعات……))(2)


    المطلب الثاني : نشأة دعوى الإلغاء
    لقد درج الفقه على دراسة القواعد المتعلقة بالفصل في المنازعات الإدارية تحت موضوع القضاء الإداري.(1)
    وتعد دعوى الإلغاء احدى تلك الدعاوى التي يختص بنظرها القضاء الإداري ، فهي تعد في مصر من وضع المشرع اجازها لاول مرة عند انشاء مجلس الدولة بالقانون رقم 112 لعام 1946 متأثرا بالوضع في فرنسا ، وذلك على خلاف ماجرى عليه الأمر فيها إذ تعد دعوى الإلغاء هناك من خلق قضاء مجلس الدولة الفرنسي.(2)
    وقد اقر القضاء الإداري المصري في العديد من احكامه الأولى قضاء الإلغاء على خلاف قضاء التعويض والمسؤولية العقدية هو قضاء مستحدث إذ لم تكن ولاية الإلغاء هذه معروفة في النظام القضائي المصري قبل تقريرها في المادة الرابعة من القانون 112 لعام 1946 بأنشاء مجلس الدولة ، وترتيبا على ذلك استقرت محكمة القضاء الإداري على عدم قبول طعون الإلغاء الموجهة ضد قرارات سابقة في صدورها على صدور القوانين المنظمة لمجلس الدولة .(3)
    أما في فرنسا فقد نشأت دعوى الإلغاء فيها تحت اسم (الطعن بتجاوز السلطة) بوصفها تظلما أداريا له الشكل القضائي ، عندما كان مجلس الدولة الفرنسي خاضعا لنظام الإدارة القاضية وغير مستكمل لسلطاته القضائية، وذلك استنادا إلى قانون 7-14 اكتوبر عام 1790 والذي كان ينص على عدم اختصاص المحاكم القضائية بالنظر في الطلبات المؤسسة على عدم اختصاص الهيأت الإدارية ، ووجوب عرض هذه الطلبات على الملك بوصفه الرئيس الاعلى للادارة ، إذ بدأ مجلس الدولة تأسيسا على ذلك النص في ارساء نظرية قضائية مشتملة لكل


    جوانب دعوى الإلغاء بوصفها دعوة عامة مفتوحة وقائمة بغير نص.(1)
    ثم تطور هذا الطعن وصار منذ عام 1872 دعوى قضائية بالمعنى الفني الدقيق ، نتيجة انتقال مجلس الدولة الفرنسي في هذا العام إلى نظام القضاء المفوض ، إذ أصبحت احكامه نهائية ونافذة بذاتها وغير متوقفة على تأييد تأييد رئيس الدولة ثم تأكدت ورسخت هذه الطبيعة القضائية بعد تدخل المشرع بهدف الاصلاح الإداري والقضائي ، وذلك بالمرسوم الصادر في 30 سبتمبر 1953 ، إذ جعل المحاكم الإدارية متمتعة بالولاية العامة في المنازعات الإدارية مع استمرار مجلس الدولة في مباشرة اختصاصات محدودة بوصفه محكمة اول واخر درجة ، فضلا عن اختصاصه بوصفه محكمة نقض أو محكمة استئناف بحسب الاحوال ، واستكمل القضاء الإداري الفرنسي بنيانه بانشاء المحاكم الاستئنافية لاول مرة على وفق قانون 31 ديسمبر 1987 إذ أصبحت دعوى الإلغاء تنظر على درجتين أو ثلاث بحسب طبيعة النزاع.(2)
    ومن غير شك أن هذا التطور قد افضى إلى ازدياد الالتجاء إلى الطعن بتجاوز السلطة ، والتنوع الكبير في تطبيقاته ، لاسيما وان المشرع قرر تسهيلات عديدة بارزة في المرسوم الصادر في 2 نوفمبر 1864 ، اهمها اعفاء رافع الدعوى من اشتراط توقيع محام على صحيفة الطعن فضلا من الاعفاء من دفع الرسوم القضائية ابتداء ، فلا تدفع ألا في حالة خسارة الدعوى وهو تسهيل امتد ليشمل على المنازعات الإدارية كافة منذ صدور مرسوم 9 ديسمبر 1948 مما يساعد على افساح الطريق أمام الأفراد وتبسيط أمر اللجوء إلى مجلس الدولة من خلال هذا الطعن عند تشككهم في مشروعية القرارات الإدارية.(3)
    ومن جانبه حرص مجلس الدولة الفرنسي على جعل هذا الطعن الوسيلة الرئيسة لضمان احترام مبدأ المشروعية ، فأوجب عده من النظام العام ،استنادا إلى انه لايرتبط بنصوص قانونية معينة ، وانما يرجع اساسه إلى المبادئ القانونية العامة أداة تحقيق المشروعية ، ومن هنا اعترف مجلس الدولة بحق الأفراد في مباشرة هذا الطعن ضد أي قرار أداري ،من دون حاجة إلى نص خاص لاقراره ، وكذلك فيما يخص القرارات التي قد ينص المشرع على عدم قابليتها للطعن، فلم ينكر هذا الحق للافراد ألا في حالة النص الصريح الذي يحظر الطعن بتجاوز السلطة على وجه الخصوص.(1) كما انه لايقبل من أحد أن يتنازل مقدما عن حقه في الالتجاء إلى هذه الدعوى ، وكل تنازل من هذا القبيل يعد باطلا.(2)
    وقد استقر مجلس الدولة منذ نشاته على أن الطعن بتجاوز السلطة يعقد للقضاء الإداري ولاية الإلغاء ، بمعنى انه إذا انتهى إلى عدم مشروعية القرار الإداري المطعون فيه ، فانه يكون مختصا بالغائه من دون أن يتجاوز ذلك إلى تعديله أو تقويمه أو ترتيب حقوق معينة للطاعن ، وكان لذلك الأمر اثره الواضح في تحديد طبيعة هذا الطعن وخصائصه.
    ويقول الأستاذ الدكتور سليمان الطماوي في دعوى الإلغاء أو دعوى تجاوز السلطة كما تسمى احيانا ، (أن ادعاء رافع الدعوى ينحصر في أن قرارا اداريا فرديا كان أو تنظيميا قد صدر مشوبا بعيب من عيوب عدم المشروعية المعروفة ، وهي عيب الاختصاص والشكل ومخالفة القانون والانحراف بالسلطة ، فالدعوى في حقيقتها ليست موجهة إلى الإدارة بقدر ماهي موجهة إلى القرار المعيب ، وهذا مايعنيه الفقهاء بقولهم أن دعوى الإلغاء ليست دعوى بين خصوم ، ولكنها دعوى ضد قرار، أو هي دعوى موضوعية كما يقال ).(3)
    واستكمالا لما وصل اليه تطور مفهوم دعوى الإلغاء لابد لنا من تحديد طبيعة هذه الدعوى على وفق خصائصها الثلاث الاتية :
    1. دعوى الإلغاء دعوى قضائية.
    دعوى الإلغاء أو بالأحرى الطعن بتجاوز السلطة شأ في الاصل خلال مرحل
    الإدارة القاضية بوصفه تظلما اداريا رئاسيا،لان ما يصدر عن مجلس الدولة في قرارات في ذلك الوقت كان معلقا على تأييد رئيس الدولة ، أي انها كانت بمثابة اقتراحات أو فتاوى تصدر بناء على طلب سلطة رئاسية ، وكان القرار الذي يصدر بناء عليه ينسب قانونا إلى رئيس الدولة الذي كان له أن يوافق على اقتراح المجلس أو يرفضه ، ومن هنا كانت تسمية قضاء مجلس الدولة في هذه المرحلة بالقضاء المحجوز ، وبصدور قانون 24 ايار 1872 الذي منح مجلس الدولة سلطة القضاء البات أو المفوض، أي حق الفصل نهائيا في المنازعات دون الحاجة إلى تأييد رئيس الدولة على احكامه ، تحولت طبيعة هذا الطعن فأتسم بالصفة القضائية واصبحت احكام مجلس الدولة نهائية ، ولم يعد هناك جدال بشأن الطبيعة القضائية للطعن يتجاوز السلطة .ومن ناحية أخرى تعد دعوى الإلغاء الدعوى العامة للقرارات الإدارية ، في حالة عدم وجود نص خاص ، أو هي دعوى القانون العام فيما يتعلق بالقرارات الإدارية وهو مايعني أن القاعدة العامة هي خضوع القرارات الإدارية جميعا لهذه الدعوى عدا ماأستثني منها بنص صريح واضح ،وسواء كانت هذه القرارات فردية ام من القرارات التظلمية أي اللوائح واي كانت القوة الالزامية لهذه القرارات ، ومثالها لوائح الضرورة التي تصدرها الإدارة لمواجهة الظروف الاستثنائية.(1)
    أما في مصر فان دعوى الإلغاء هي من الدعاوى القضائية وذلك منذ نشأتها عام 1946 مع قيام مجلس الدولة ، بمعنى أن الدعوى ترفع إلى جهة تملك الولاية القضائية وتصدر احكاما لامعقب لها ، كما أكدت المحكمة الإدارية العليا تلك الطبيعة القضائية لدعوى الإلغاء وقررت أن القضاء الإداري لايعد فيما يخص الجهة الإدارية درجة أعلى من درجة التقاضي ، بل الجهتان مستقلتان في اختصاصهما الوظيفي .والمفروض أن القرار الإداري يستنفذ مراحله جميعا في درجات السلم الإداري حتى يصبح نهائيا قبل اللجوء إلى القضاء مبتدأه فيما يخص القرار الإداري .(2)
    2- دعوى الإلغاء دعوى موضوعية
    في هذه الخاصية لابد لنا من التفرقة بين الدعاوى الشخصية والدعاوى الموضوعية أو العينية ، فاذا تعلقت الدعوى بحق شخصي يهدف رافع الدعوى إلى الدفاع عنه فأنها تعد من الدعاوى الشخصية ، وهي دعاوى تتميز بان الهدف منها حماية المراكز القانونية الشخصية والفردية .بينما تعد موضوعية إذا استهدفت الدفاع عن مصلحة عامة ، حتى لوكانت الدعوى تحوي عناصر شخصية أو ترمي إلى الدفاع عن مصالح فردية ، إذ يظل الهدف الرئيس هو حماية القواعد القانونية العامة المجردة أو بالأحرى حماية المشروعية وذلك من خلال دعوى الإلغاء التي تبغي دوما احترام مبدأ المشروعية.
    والنزاع في الدعاوى الشخصية يكون بين طرفين ، فالمدعي في هذه الدعاوى يلجأ إلى القاضي لانه يرى أن أحد الأشخاص قد تعدى على حق له ناتج عن مركز قانوني شخصي (1) ، ومن ثم يكون دور القاضي متمثلا في فحص ادعاءات طرفي الخصومة ، أما في الدعاوى الموضوعية فأن رافع الدعوى يهدف إلى تحريك رقابة القاضي لتحقيق مصلحة عامة وهي فيما يخص دعوى الإلغاء محو آثار القرارات الإدارية غير المشروعة ، وحث الإدارة على عدم العودة إلى الخروج على مبدأ المشروعية بغض النظر عن اثر هذا الخروج في حقوق الأفراد (2) .ومن هنا تختلف فكرة الخصوم في الدعاوى الموضوعية عنها في الدعاوى الشخصية ، فهي في الأخيرة خصومة بين طرفين أو شخصين في حين انها في الأول مخاصمة لقرار أداري غير مشروع وذلك بعد رد دعوى الإلغاء بقصد رده إلى حكم القانون حماية لمبدأ المشروعية(3) ، وكذلك الأمر بدعوى دستورية القوانين ، فهي مخاصمة لنص تشريعي ورد في قانون أو لائحة ، وذلك بقصد رده إلى حكم الدستور حماية لمبدأ سمو الدستور.(4)
    واستنادا إلى ذلك فان قبول الدعوى الموضوعية يكون اوسع نطاقا واكثر سهولة وتيسيرا ، فيكتفي مثلا لرافع الدعوى أن يكون له مصلحة من دون رفع الدعوى ، دون أن يكون صاحبا لحق معتدى عليه مثلما هو الأمر في الدعاوى الشخصية ، كما انه يترتب على اختلاف الهدف بين القضاء الموضوعي والقضاء الشخصي أن تكون حجية الأحكام الصادرة في الدعاوى الموضوعية مثل دعوى الإلغاء حجية مطلقة في مواجهة الكافة ، بعكس الاحكام المتصلة بالقضاء الشخصي ذات الحجية النسبية التي تدور مع موضوع الدعوى وسببها واطراف الخصومة فيها.
    وعلى الرغم من أن المحكمة الإدارية العليا في مصر قد قضت صراحة بأن ((الخصومة في دعوى الإلغاء هي خصومة عينية تلحق القرار الإداري المطعون فيه بما لايدع حاجة لاقامتها ضد المستفيد من القرار)).(1)
    ذهب جانباً من الفقه إلى أن دعوى الإلغاء تعد في تطورها الجديد من الدعاوى المختلطة ، فهي إذ تدخل في نطاق القضاء العيني لانها تقوم بحسب الاصل على حماية المشروعية الإدارية ، فأنها تدخل كذلك في القضاء الشخصي بحكم ماتوفره بوصفها دعاوى قضائية من حماية جدية للمراكز الذاتية والحقوق المكتسبة الشخصية لاصحاب الشأن ، وهي من ناحية أخرى تخاصم الإدارة حين تخاصم القرار الإداري وتدور ككل دعوى قضائية حول مصالح خاصة ومراكز ذاتية ، بل وحول حقوق شخصية للافراد بقصد تقرير حماية المراكز والحقوق عن طريق رد الاعتداء الواقع عليها بإلغاء القرارات غير المشروعة.(2)
    ويرى الدكتور سليمان الطماوي أن القضاء العيني هو جزء من القضاء الشخصي.(3)






    3- دعوى الإلغاء تنتمي إلى قضاء المشروعية .
    أن دعوى الإلغاء تثار كما لاحظنا لاجل تقرير مبدأ المشروعية للقرارات الإدارية المخالفة للقانون ، والقضاء إذا الغى أحد القرارات الإدارية المجاوزة للسلطة ، فان ذلك يعني أن القرار غير مشروع.(1)
    وعلى هذا الأساس فان قضاء الإلغاء مبني على فكرة المشروعية بمعنى أن دعوى الإلغاء لاتقام ألا ضد قرار إداري غير مشروع لمخالفته قواعد القانون فيما يتعلق باي عنصر من عناصر القرار الإداري وهي الشكل والاختصاص والسبب والمحل والغاية ، أما إذا خالفت الإدارة بقرارها قواعد العدالة المجردة مثلا ، من دون مخالفة القانون ، فأن هذه المخالفة لاتكفي وحدها لرفع دعوى الإلغاء ، وتؤدي إذا رفعت إلى الحكم برفض الدعوى ، كذلك لايجدي المدعي أن يثبت أن القرار غير ملائم او انه ضار به شخصيا ، فحتى لو نجح في اقامة الدليل على ذلك لما افاده شيئا طالما كان القرار مشروعا ، كما أن العكس أيضا صحيح فلا يجدي جهة الإدارة المدعى عليها أن تثبت أن القرار ملائم أو انه يحقق مصلحة عامة أو انه قد حققها بالفعل ، طالما ظهر أن القرار غير مشروع أو انه خروج عن قاعدة قانونية ايا كانت .(2)
    فقاضي الإلغاء دائما قاضي مشروعية ، إذ أن إجراءات دعوى الإلغاء كافة تدور حول فحص القرار الإداري للتحقق من سلامته من الناحية القانونية ، ويقتصر دور القاضي على المقابلة بين القرار المطعون فيه بالالغاء والقواعد القانونية المشروعة النافذة المتصلة به ، وصحة تطبيق القانون ، كما انه لايجوز للقاضي الإداري أن يتناول الوقائع بالفحص والتحقيق ألا إذا كان ذلك ضروريا لفحص المشروعية ، غير أن ذلك لايعني أن قاضي الإلغاء هو قاضي قانون وليس قاضي وقائع ، إذ أن للقاضي أن يبحث في ركن السبب في القرار إذا كان مبنى الطعن فيه انعدام سببه الصحيح ، فإذا ما ثبت للقاضي أن الواقعة التي استند


    اليها القرار لاوجود لها البتة ، أو لا وجود لها بالوصف القانوني المطلوب ، كان له إلغاء القرار الإداري لعيب السبب.وهذا يعني أن شروط وإجراءات تحريك دعوى الإلغاء تقوم مثلها في ذلك مثل أي دعاوى قضائية أخرى بتقديم صحيفة الدعوى إلى المحكمة وقيدها في جدولها ، وبدون ذلك لاتوجد دعوى ، إذ أن القانون ، كما أشارت إلى ذلك المحكمة الإدارية العليا ، حدد إجراءات التقدم بهذا الادعاء الذي يؤدي إلى انعقاد الخصومة ، وهي التي تقوم على اتصال المدعى عليه بالمحكمة المرفوعة امامها الدعوى ، وتكليف المدعى عليه بالمثول امامها لكونها علاقة بين طرفيها من جهة ، وعلاقة بين هذين الطرفين وبين القضاء من جهة أخرى ، فاذا لم تكن ثمة دعوى من أحد الخصمين للخصم الأخر إلى التلاقي أمام القضاء ، أو لم يكن لاحدهما أو كليهما وجود ، فلا تنشأ الخصومة القضائية ولا تنعقد ، ويلزم لصحة هذه الدعوى أن تكون موجهة من صاحب الشأن ذاته أو صاحب الصفة في تمثيله أو النيابة عنه قانونا أو اتفاقا ، فإذا لم تقم الدعوى صحيحة سقط ركن من أركان الخصومة ، ومتى انعدمت هذه وفقدت كيانها كان الحكم صادرا في غير خصومة ومن ثم باطلاً بطلانا ينحدر إلى مستوىالعدم (1) وسبق أن اشرنا إلى أن النظر في دعوى الإلغاء والفصل فيها يستوجب من القاضي اولا البحث في مدى اختصاصه بنظر الدعوى ثم في شروط قبولها ، لكي ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة البحث في موضوع الدعوى تمهيدا لاصدار الحكم فيها.
    وإذا كانت التفرقة بين دعوى الإلغاء ودعوى القضاء الكامل تقوم على اساس طبيعة النزاع المعروض على القضاء ، فان ثمة تقارب بين الدعويين في النتائج التي تترتب عليهما للافراد .إذ أن الغاء القرار الإداري يمكن أن يولد حقوقا لرافع الدعوى ، بل أن هذا الأخير يرفع دعواه في العادة بقصد تحقيق المصالح الخاصة التي يمكن أن تترتب على الغاء القرار، وليس (2) من اجل تحقيق المصالح العامة والمحافظة على مبدأ المشروعية .فالموظف الذي يطعن بإلغاء القرار الصادر من الإدارة يرفض منحه علاوة عند استحقاقها ، انما يسعى من وراء الإلغاء اساسا إلى الحصول على هذه العلاوة.
    وقد دفع هذا التقارب بين دعوى الإلغاء ودعوى القضاء الكامل بعض الفقهاء إلى القول بدخول قضاء الإلغاء في نطاق القضاء الشخصي لان الأفراد يرفعون دعاوى الإلغاء للوصول إلى حماية حقوقهم الشخصية. (1)
    وراى اخرون أن دعوى الإلغاء تعد من الدعاوى المختلطة لانها لاتقوم بحماية المشروعية فقط وانما توفر الحماية كذلك لحقوق المدعى (2) .غير أن هذا التقارب بين دعوى الإلغاء –بوصفها دعوى موضوعية – ودعوى القضاء الكامل – بوصفها دعوى شخصية – لايحجب تباين النتائج المترتبة على اختلاف طبيعة كل من الدعوتين ، وهذا واضح في المقارنة الاتية :-
    اولاً :- يشترط لقبول دعوى الإلغاء وجود مصلحة شخصية مباشرة للمدعي تبرر طلب الإلغاء (3) على خلاف دعوى القضاء الكامل التي يشترط لقبولها المساس بحق رافع الدعوى.
    ثانياً : تقتصر سلطة القاضي في دعوى الإلغاء على الحكم بإلغاء القرار الإداري غير المشروع ، أما في دعوى القضاء الكامل فللقاضي أن يحكم بتعديل القرار المطعون فيه أو بالتعويض عن الأضرار التي الحقها بالمدعى.ويتولى القاضي في الحالتين بحث النزاع ليس فقط من الناحية القانونية وانما كذلك الوقائع التي يستند اليها القرار وتمثل أحد اركانه وهو ركن السبب وجودها وصحة تكييفها.
    ثالثا : للحكم في دعوى الإلغاء حجية مطلقة في مواجهة الكافة ، أما الحكم في دعوى القضاء الكامل فان حجيته نسبية (4) تقتصر على اطراف النزاع .
    المبحث الثالث

    دور قاضي الإلغاء في رقابة المشروعية

    اكتسب دور قاضي الإلغاء في رقابة المشروعية أهمية متزايدة لغرض تنظيم الرقابة على أعمال الإدارة العامة في ظل التطور السياسي والاجتماعي المعاصر الذي دفع معظم الشعوب إلى التخلي عن مذهب الحرية الفردية في مجاليه السياسي والاقتصادي، والى إن تأخذ نفسها بنظم جديدة تقوم على تدخل الدولة تدخلا متزايدا في النشاط الفردي.(1)
    ومقتضى ذلك إن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ المشروعية الذي هو " سيادة حكم القانون" ومعنى ذلك إن تخضع الدولة في تصرفاتها للقانون السائد، وان يمكن للافراد بوسائل مشروعة من رقابة الدولة في ادائها لوظيفتها، بإذ يمكن إن تكون دعوى الإلغاء الطريق الذي يوقفها عند حدها كلما حاولت الخروج على حدود القانون عن عمد أو اهمال واعادتها إلى جادة الصواب. ونظرا لاحتمال عدم تمكن الرقابة الإدارية من الوفاء بالغرض المرجو من ضمان سيادة مبدأ المشروعية، فان رقابة الإدارة في كيفية ممارسة نشاطها يجب ان يعهد بها إلى القضاء. ولكن أي نوع من أنواع القضاء؟. لقد اختلفت الدول في هذا الصدد لاختلاف مذاهبها وظروفها الاجتماعية ، وسلكت مذهبين مختلفين:-
    1. ذهب فريق منها وعلى رأسها الدول الانكلوسكسونية إلى اخضاع الإدارة إلى المحاكم الاعتيادية، إلا إن انصار هذا المذهب استكثروا قيام محاكم ادارية بجوار المحاكم القضائية لأن ذلك سيؤدي في نظرهم إلى تعقيد الأمور بلا مبرر، إذ ستحدث اشكالات فيما يتعلق بتوزيع الاختصاص واضاعة الوقت والمال بلا فائدة ، كما إن انشاء نوعين من القضاء سيكلف الخزانة العامة مصاريف لا داعِِ لها.(2)
    2. المحاكم الإدارية : وهذا هو الاتجاه الحديث. وقد نشأت هذه المحاكم لأول مرة في فرنسا بناء على اسباب تاريخية خاصة، ترجع اصلا إلى الفكرة السيئة عن المحاكم القضائية.(1)
    ومهما يكن من امر، فاننا سنتناول في المطلب الأول من هذا المبحث دعوى الإلغاء دعوى المشروعية وفي المطلب الثاني سنناقش مبدأ القاضي الإداري يقضي ولا يدير وصولا إلى تحديد دور قاضي الإلغاء في رقابة المشروعية.
    المطلب الأول:دعوى الإلغاء دعوى المشروعية
    المشروعية مبدأ عرفته النظم السياسية في العالم جميعا وفي الاقل هي تحرص على تأكيد التزامها به وتتفق اكثرها على انه التزام الحكام والمحكومين بقواعد القانون وخضوعها لها. واختلفت تسمياته بين نظام واخر، ففي النظام الانكلوسكسوني يسمى مبدأ سيادة القانون وفي النظام الفرنسي والدول المتأثرة به يسمى مبدأ المشروعية.(2) ودعوى المشروعية في الأساس هي مبدأ عرفته الشريعة الإسلامية ووجد أساسه في القران الكريم (سورة البقرة- الجزء الثاني) بقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) صدق الله العظيم . وفي العام النبوية قوله(ص) في تقرير مبدأ المساواة (الناس سواسية كأسنان المشط ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى)وفي أعمال الخلفاء الراشدين قول ابو بكر الصديق(رض) عندما بويع بالخلافة( ايها الناس اني وليت عليكم ولست بخيركم فان احسنت فأعينوني وان اسأت فقوموني الصدق امانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى اخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه إن شاء الله)، وقول عمر بن الخطاب (رض) (فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني، فانما انا رجل منكم)، وقول علي بن ابي طالب (رض) الذي حرص على إن يخضع هو الأخر للقضاء وهو خليفة للمسلمين حين فقد درعا له فوجده عند نصراني فاقبل به إلى القاضي شريح، وجلس إلى جانبه وقال لو كان خصمي مسلما لساويته، وقال هذا درعي، فقال النصراني ما هو إلا درعي وما امير المؤمنين عندي بكاذب، فقال شريح لعلي..الك بينة؟ قال علي لا.. وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيرا ثم عاد وقال.. اشهد إن هذه احكام الانبياء، امير المؤمنين قدمني لقاضيه وقاضيه يقضي عليه) واضح مما تقدم إن الشريعة الإسلامية كان اساسها مبدأ المشروعية.(1)
    وواضح أيضا إن الشريعة الإسلامية لم تعرف التفرقة بين الحاكم والمحكوم فيما يتعلق بالخضوع للشريعة، ومعنى ذلك إن الشريعة الإسلامية لم تعرف التفرقة بين القانون الذي يحكم السلطات العامة والقانون الذي يحكم الأفراد فيما بينهم، وانما تعرف قانونا واحد يحكم الحاكمين والمحكومين على سواء. لذلك لم تعرف الدولة الإسلامية وجود قانون إداري مستقل.(2)
    لقد تناولنا في المبحث الثاني من هذا الفصل توضيح دعوى الإلغاء وقلنا في المطلب الثاني منه إن من خصائص دعوى الإلغاء إنها دعوى تنتمي إلى قضاء المشروعية. فيقول الدكتور منذر الشاوي في هذا الصدد بانه (… لا يمكن ادراك مبدأ المشروعية، أو لا تكون له قيمة ، إلا إذا كان هناك جزاء يضرب تصرفات السلطة الإدارية التي تخرج في نشاطاتها عن النطاق الذي حددته لها الأنظمة… والقوانين).(3)ولعل تلك الأهمية هي التي دفعت المشرع الدستوري المصري ليقرر في دستوره الصادر عام 1971 مبدأ (خضوع الدولة للقانون) بجعله أساس الحكم في الدولة " لسيادة القانون" .(4)وكذلك الامر الذي دفع المشرع البريطاني إلى النص بعدم وجود أي اثر للنص القانوني الذي يتضمن حجب ولاية القضاء من النظر في النزاع القانوني وذلك في المادة (13) من قانونه المسمى:
    (Tribunals and inguiries Act).(1)
    ولتوضيح الاثر المادي والشكلي لمبدأ المشروعية في دعوى الإلغاء لابد لنا من التعريف بفكرة الرقابة القضائية، إذ من الأمور المستقر عليها في فقه القانون العام هو ( إن الضمان الحقيقي والفعال لمبدأ المشروعية يتمثل في اخضاع تصرفات السلطات العامة للرقابة القضائية). (2) ولاسيما تصرفات السلطة الإدارية التي تتجاوز فيها النطاق الذي حددته لها القواعد القانونية النافذة.(3)، فلكي يكتمل نظام دولة القانون عمليا، ولكي تعزز المبادئ التي يرتكز عليها لا بد من منح المواطنين (سلاحا فعالا يحول من دون تعسف الإدارة أو تماديها في التعسف بعد وقوعه).(4) لذلك يعد خضوع الإدارة للرقابة القضائية ركنا مهما في بناء الدولة القانونية (إذ لا يكفي إن تكون الدولة قانونية من الناحية النظرية فقط، بل ينبغي إن يكون هناك من الضمانات ما يكفل عملا اضفاء صفة القانونية في الدولة، وإذا كان لرقابة السلطة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية اثر عظيم في ضمان خضوع الإدارة للقانون ، إلا إن هذه الرقابة لا تكفي وحدها وينبغي إن يكون إلى جانبها رقابة قضائية فعالة، هذا من جهة ومن جهة أخرى يعد وجود قضاء لرقابة مشروعية أعمال الإدارة من المبادئ العامة للقانون.(5) ويعد كذلك حق الأفراد في رقابة مشروعية أعمال المرافق العامة لاسيما المرافق العامة الإدارية حقا عاما بإجماع الفقه والقضاء الاداريين.(6)
    كما إن مبدأ فصل السلطات بمفهومه الحديث والذي يعني مبدأ الاستقلال الوظيفي مع مراعاة التخصص الوظيفي للسلطات العامة في الدولة(1)، يوجب إن يكون الفصل في القضايا أيا كان نوعها، من اختصاص السلطة القضائية، وان يكون في وسع السلطة القضائية، إن تؤثر في الإدارة عن هذا الطريق فتضع حدا لاستبدادها وطغيانها.(2) ويذكر الدكتور مصطفى ابو زيد فهمي إن هذا المبدأ يقضي بان كل مواطن اضر به قرار من القرارات الإدارية يجب إن يجد طريقا قضائيا لإلغاء هذا القرار عن طريق دعوى الإلغاء ، ولهذا السبب فان من المبادئ المقررة في القضاء الإداري الفرنسي إن الطعن بالإلغاء ضد القرارات الإدارية إنما يعد من النظام العام ولا يمكن استبعاده حتى ولو نص على إن قرارا إداريا معينا لا يقبل الطعن بأي طريق من طرائق الطعن الإدارية أو القضائية ، لأن مثل هذا النص يفسر على انه يستبعد ولاية القضاء الكامل من دون ولاية الالغاء(3) ويؤكد مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد إن الطعن بالإلغاء إنما يفتح حتى بغير نص ضد كل قرار إداري ليضمن احترام مبدأ المشروعية.(4) ويطبق القضاء المصري هذا المبدأ بذات مفهومه وحدوده التي اقرها القضاء الفرنسي.(5)
    واهم ما يترتب على عد دعوى الإلغاء من دعاوى المشروعية إن سلطات القاضي الإداري تتحدد في هذه الدعوى ، فلا يجوز إن ينتهي حكمه إلا إلى احد امرين:
    أ‌. رفض الدعوى موضوعيا وهو ما يعني تأييد مشروعية القرار محل الطعن.
    ب‌. إلغاء القرار لعدم مشروعية (سواء كان الإلغاء كليا أم جزئيا ). والحكم في الحالة الأولى له حجية نسبية في مواجهة لطاعن وحده، على خلاف الحكم في
    الحالة الثانية الذي يكون له حجية مطلقة، فتسري آثار الحكم في مواجهة الكافة(1) وعليه لا يجوز للقاضي الحكم مثلا بالطرد أو الازالة، وعموما لا يملك إن يصدر اية أوامر إلى جهة الإدارة للقيام بعمل معين، كما لا يملك اجبارها على شيء من ذلك عن طريق التهديدات المالية، وهو اتجاه قديم حسبما اعتقد وكما سنرى لاحقا.
    ويرجع السبب في تحديد سلطات قاضي الإلغاء على هذا النحو إلى طبيعة هذه الدعوى العينية وخصوصيتها المتعلقة بالمشروعية لا يستلزم اكثر من فحص هذه المشروعية لتقرير إلغاء القرار الإداري لعدم المشروعية أو رفض الدعوى لمشروعية القرار المطعون فيه، فبذلك يتحقق دور الدعوى في حسم النزاع بشأن مشروعية القرار، مع ما يترتب على الحكم من آثار عملية.
    وهذا ملخص لتأريخ نشأة دعوى الإلغاء وخصائصها الرئيسة والتي تقودنا إلى تعريف دعوى الإلغاء بأنها ( الدعوى القضائية التي ترفع أمام جهة القضاء الإداري للنظر في طلبات ذوي المصلحة بإلغاء القرارات الإدارية لعدم مشروعيتها).(2)


    المطلب الثاني : القاضي الإداري يقضي ولا يدير
    يتميز النظام القضائي في فرنسا بانتهاج (نظام القضاء المزدوج )المبني على اساس مبدأ فصل السلطات وقد ترك هذا المبدأ اثره في تحديد مفهوم الرقابة التي يمارسها قاضي الالغاء فعدها قيد يرد عليه ، إذ يقتصر دوره على بحث مشروعية القرار الإداري المطعون فيه اي بحث مدى مطابقته للقانون ، إذ يوصف قاضي الإلغاء بانه قاضي قانون لا قاضي وقائع . فالرقابة التي يمارسها






    قاضي الإلغاء محصورة في دائرة المشروعية (1) وهذا يعني خضوع السلطة المقيدة للإدارة لرقابة قاضي الإلغاء لارتباطها بفكرة المشروعية ، أما إذا تمتعت الإدارة بسلطة تقديرية فأن سلطة قاضي الإلغاء لاتمتد اليها الا إذا شابها عيب الانحراف في استعمال السلطة.(2) أو غلط في التقدير أو اختلال في الموازنة والتباين بين المحل والسبب في القرار المطعون به.
    والسلطة التقديرية كما يعرفها الدكتور رمضان بطيخ "للإدارة الاختيار الحر للاجراء الذي تراه مناسبا للوقائع التي تبرر اتخاذه وذلك في غير الحالات التي تلتزم بما يقرره كل من المشرع والقاضي من قيود في خصوصها" .(3)
    وهذا التعريف ينسجم مع الاتجاهات المتطورة والحديثة في مفهوم مجلس الدولة الفرنسي .
    وتتجدد مظاهر السلطة التقديرية للإدارة في القرار الإداري في ركني السبب والمحل ، من دون الاركان الأخرى.
    وتتمثل السلطة التقديرية في ركن السبب بحرية الإدارة في تقدير اهمية وخطورة الوقائع التي يبنى عليها القرار الإداري ، ولقاضي الإلغاء أن يراقب صحة قيام
    الوقائع وصحة تكييفها القانوني .(4)
    ولاتمتد إلى نطاق تقدر اهميتها أو خطورتها إلا إذا كانت ذات تأثير على مشروعية القرار الإداري .(5)
    واشارت إلى ذلك الهيأة العامة في مجلس شورى الدولة بصفتها التمييزية في حكمها الصادر بتاريخ 30/6/1990 بقولها أن الإدارة حق تقدير كفاية موظفيها من عدمه بل أن ذلك من مستلزمات حسن سير المرفق العام المناط بها ، إلا أن هذا التقرير يجب أن يستند إلى وقائع مادية مثبتة في الاضبارة الشخصية للموظف خلال خدمته الوظيفية ولايجوز أن يستند هذا التقدير إلى مواقف مفاجئة لاسند لها في ذلك.(1).
    اما عن ركن المحل ، فتتمثل السلطة التقديرية بحرية الإدارة في أن تتدخل أو تمتنع أو في اختيار وقت التدخل أو في اختيار فحوى القرار ، فهذه العناصر الثلاثة تؤلف نطاق الملاءمة في القرار الإداري ، لذلك فانها لاتخضع لرقابة قاضي الالغاء (2) وقد عمل مجلس الدولة الفرنسي على تبني تلك العناصر فقرر في احد احكامه ...ان اوجه الطعن الأخرى المتعلقة بملاءمة القرار لايمكن لمجلس الدولة مناقشتها في الطعن بمجاوزة السلطة .(3)
    واكدت على ذلك المحكمة الإدارية العليا في مصر في الحكم الصادر عنها في 13/12/1975 فقالت (ان رقابة محكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية على القرارات الإدارية هي رقابة قانونية تسلطها عليها لتتعرف على مدى مشروعيتها من إذ مطابقتها للقانون ، وهذا بدوره هو عين القانون الذي تتناوله المحكمة الإدارية ...إذ أن نشاط القضاء الإداري في وزنه للقرارات الإدارية ينبغي أن يقف عند حد المشروعية أو عدمها فلا يتجاوزها إلى وزن مناسبات القرار).
    ولم يقتصر دور قاضي الإلغاء على رقابة السلطة التقديرية للإدارة فقط بل تعداها إلى رقابة الملاءمة في مجال الضبط الإداري والتي تعد استثناءاً من القاعدة العامة التي يلتزم بها القضاء في رقابته النشاطات الإدارية كافة وهذه الرقابة تجد صداها في الاتجاهات المتطورة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي وهو المسلك نفسه الذي سار عليه مجلس الدولة المصري.(1)
    لقد ترك هذا التطور اثراً بالغاً في اجتهادات واختصاصات القاضي الإداري في كل من فرنسا ومصر وبعض الدول العربية التي اخذت بنظام القضاء المزدوج وجعلت القاضي الإداري يمتنع عن توجيه اوامر للإدارة ، فهو قاضي مشروعية بفحص قراراتها فيلغيها إذا وجد فيها عيباً، من دون تعديلها أو الحلول محلها في اصدار القرارات.
    ومن جانب اخر فأن المفهوم الفرنسي لمبدأ الفصل بين السلطات الذي صاحب نشأة القضاء الإداري حال من دون امكان اللجوء إلى القضاء الاعتيادي بدعوى مدنية لتنفيذ القرار.(2)كما أن اعتراف القضاء الإداري بأن للإدارة سلطة فرض الجزاء امر لايخالف مبدأ الفصل بين السلطات لان ذلك امر يمكن الرد عليه بان الفصل بين السلطات لم يعد فصلا مطلقاً وانما صار فصلاً نسبياً والامثلة على ذلك عديدة ، فمثلاً السلطة التشريعية تفصل وتحكم في بعض المنازعات لاسيما المتعلقة بصحة العضوية، والقاضي المدني في بعض المنازعات الإدارية يحكم ويدير فيوجه اوامره اليها(3) ويحكم بأبطال غير المشروع من تصرفاتها.
    والادارة ممثلة في السلطة التنفيذية تمارس سلطة التشريع فيما تصدره من لوائح سواء في الظروف الاعتيادية أو الاستثنائية .(4)
    وعلى الرغم ذلك لم يقل احد أن في ذلك اخلال بمبدأ الفصل بين السلطات ، الا أن المجلس الدستوري الفرنسي قد قرر حديثا بأن الجزاءات الإدارية بمعناها المقصود هنا لاتتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات شريطة أن يقترن تطبيقها بالضمانات المقررة في نطاق الجزاءات الجنائية.واكد على ذلك في قرار له صدر في 28 تموز يعده الفقه الفرنسي القول الفصل في دستورية الجزاءات الإدارية بقوله (لايمثل مبدأ فصل السلطات ، ولا اي مبدأ دستوري اخر،عقبة أمام الاعتراف للسلطة الإدارية التي تتصرف في نطاق ماتتمتع به من امتيازات السلطة العامة ، بممارسة سلطة الجزاء بشرطين اولهما : إلا تكون هذه الجزاءات من الجزاءات السالبة للحرية، وان تكون ممارسة سلطة الجزاء مقترنة بالضمانات التي تكفل حماية الحقوق والحريات المكفولة دستورياً).(1)
    لقد ثبت المجلس الدستوري الفرنسي عام 1987 اختصاص القضاء الإداري حينما قضى بأنه ...تماشياً مع المفهوم الفرنسي لمبدأ الفصل بين السلطات وبموجب المبادئ الاساسية المعترف بها بقوانين الجمهورية ، يعود للقضاء الإداري اختصاص إلغاء وتعديل القرارات المتخذة بناء على ممارسة السلطات الإدارية المختلفة لامتيازات السلطة العامة "مما يجعل من القاضي الإداري المختص بإلغاء القرارات الإدارية الصادرة عن شخص عام خلال ممارسته لامتيازات السلطة العامة.(2)
    اما المشرع العراقي فقد حدد اختصاص قاضي الإلغاء بالنظر (3)
    في صحة الاوامر والقرارات الإدارية التي تصدر من الموظفين والهيأت في دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي .(4)
    وأورد بعض الاستثناءات على هذا الاختصاص ، وهو الاتجاه الذي يفسر بأنه تضييق في اختصاص القاضي الإداري مما يجعله محدود الاجتهاد وهذا الأمر ينعكس سلباً على اداء القاضي وقدرته على الذهاب إلى ابعد مما هو مرسوم ومحدد مما يجعله قاضي مشروعية يقضي ولايدير .
    ومهما يكن من امر فنحن قد استخلصنا في هذا الفصل أن رقابة القضاء على اعمال الإدارة هي احدى الوسائل المهمة في حماية الحقوق والحريات الفردية ومراقبة تصرفات الإدارة وهي تمارس شؤون وظيفتها ، وان المشرع قد حدد للرقابة القضائية على اعمال الإدارة الحدود الاتية :
    1.الجهة التي تمارس الرقابة القضائية هي هيأة بعيدة عن الإدارة لها ضماناتها واستقلالها ، ولاتقتصر ممارسة الرقابة على القضاء الإداري (في الدول التي تأخذ بنظام القضاء المزدوج ) وانما يشترك فيها كذلك القضاء الاعتيادي ، اي أن السلطة بفرعيها تمارس الرقابة على اعمال الإدارة.
    2.الرقابة القضائية لايستطيع القضاء ممارستها إلا بناء على دعوى ترفع اليه من صاحب المصلحة.
    3.تتطلب الرقابة اتباع اجراءات معينة بينها القانون فيما يخص اجراءات رفع الدعوى والمواعيد المحددة لذلك.
    4.الرقابة القضائية رقابة قانونية بمعنى انها تقتصر على بحث مشروعية اعمال الإدارة لمعرفة مدى مطابقتها لاحكام القانون بصفة عامة (اي مدى مطابقتها واتفاقها مع مبدأ المشروعية) ، ولايصح أن تتجاوز هذه الرقابة تلك الدائرة.
    5.الجهة القضائية التي ترفع امامها الدعوى لاتستطيع اهمالها والتزام الصمت حيالها مثلما تفعل الإدارة احيانا بالنسبة لبعض التظلمات المقدمة اليها ذلك ان سكوت القاضي وامتناعه عن الفصل في الدعوى يعد جريمة يعاقب عليها تسمى جريمة انكار العدالة ، ومن ثم فأن القضاء على خلاف الإدارة ملزم قانوناً بالفصل في كل نزاع دعوى ترفع اليه.
    6.تتمثل الرقابة القضائية بحكم يتمتع بقوة الشئ المقضي به، وتكون لهذا الحكم الحجية قبل الكافة إذا كان صادراً في دعوى الالغاء وحجية نسبية في الدعاوى الأخرى وكذلك في دعاوى الالغاء إذا كان الحكم صادراً فيها


    بعدم القبول أو الرفض (1) .
    وهذه الحجية المشار اليها مقصورة على احكام القضاء النهائية بعكس القرارات الإدارية فأنها لاتحوز قوة الشئ المقرر به ، ومن ثم فانها قابلة للطعن فيها أمام القضاء.
    يتضح مما تقدم أن حقوق الأفراد وحرياتهم لاتكفل بصورة جدية إلا في ظل الرقابة القضائية ، إذ هي في الواقع الرقابة الفعالة على اعمال الإدارة (2) ويبقى القاضي الإداري وهو يفصل بين الخصومات الإدارية ، يقضي ولايدير إذ لايستطيع أن يعدل بنفسه القرار المطعون فيه.(3)


    بحث منشور -منقول

  2. #2
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    تاريخ التسجيل: April-2013
    الدولة: الديوانية
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 11,248 المواضيع: 488
    صوتيات: 5 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 3350
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: Lawyer
    أكلتي المفضلة: السمك
    موبايلي: Galaxy A5
    آخر نشاط: 11/June/2018
    مقالات المدونة: 2
    SMS:
    ٠٠٠ إعلان... فقد وطن اخضر اللون يدعى وادي الرافدين. يرتدي مليون نخلة واهوار بحجم معاناته. عمرهُ آلاف السنين. يتجول في ازقتهُ الموت. كان ملاذاََ للخائفين واصبح خوفاََ للآمنين تزين ارصفتهُ دماء الاطفال الأبرياء الذاهبين
    شكرااااااااااا

  3. #3
    من المشرفين القدامى
    نحلة المنتدى
    تاريخ التسجيل: April-2013
    الدولة: BAGHDAD
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 9,978 المواضيع: 2,105
    صوتيات: 27 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 6892
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: معاون قانوني
    أكلتي المفضلة: مقلوبة وشوربة
    موبايلي: GALAXY s4
    آخر نشاط: 13/November/2015
    مقالات المدونة: 3
    SMS:
    عندما تتذوق الصدمات في حياتك سيصبح عقلك اكبر من عمرك بكثير

  4. #4
    من أهل الدار
    الصبر كميل يا زكية
    منورة اختي

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال