الرحالية زمان

الرحالية.. حين تُولد المدن من شقوق الرمل

تقييم هذا المقال
بواسطة الرحالية زمان, منذ 2 يوم عند 11:39 PM (246 المشاهدات)
في خاصرة الصحراء، حيث ينكسر الأفق على صفحة الرمال، تولد الرحالية كل صباحٍ من جديد. ليست مدينةً تقف عند حدود الطين والنخل، بل كائنٌ حيٌّ تنبض فيه الذاكرة، وترتجف في وجدانه القصص القديمة، والمرويات التي لم تُكتب في كتب التاريخ، بل حُفرت في صدور الرجال، وعلى وجوه النساء، وتحت جذوع النخل الذي يعرف من مرّ ومن بقي.
الرحالية ليست عابرة سبيلٍ في خريطة الوطن، بل ابنةُ الرمل الشرعيّة، التي شقّت صمت الصحراء بعرق السواعد، ووهج الانتماء، والقدرة العجيبة على تحويل القسوة إلى عطاء، والعزلة إلى هوية.
فوق ترابها، اختلطت دماء القبائل بروح الأرض، فصارت الأرض عشيرة، وصار الانتماء إليها نسبًا لا يُمحى.
جاءها الأخوان، علي بيك وسليمان بيك، وفي صدريهما ما تبقّى من تاريخٍ جريح، وحلمٍ يتيم. غرسوا أوتادهم غرب الرزازة، لا كلاجئين، بل كروّادٍ يتحدّون العدم. حولهم كانت الريح، وفوقهم سماء قاسية، لكن تحت أقدامهم كانت الأرض تتنفس انتظارًا، كأنها تتهيأ لاستقبال أول خيمة، وأول جذع نخلة، وأول صلاة في اتّجاه الأمل.
فكبرت الرحالية، لا على حساب غيرها، بل كبرت لأن الزمن أعطاها امتحانات مبكرة، فنجحت فيها.
كبرت وفيها عين الزرقاء تسقي الحلم، وعين البخيتي تروي المواجع، وعين جفة تمسح الغبار عن وجه الذاكرة.
في هذه الواحة التي لُقّبت بـ الخضراء، لا تأتي الخُضرة من ترف المطر، بل من جلد الرجال، وصبر النساء، وحنوّ النخل الذي ظلّ واقفًا، وإن هجرته السماء.
السادة البيگات والبوسليمان الشاهر كانوا أول الخيط، ثم لحقتهم بيوتٌ وعشائر: الحروب، البو جادر، الحجاج، آل شديد، النعيم، المشاهدة، بيت موسى، البوشبل، بيت دويحس، فصار النسيج الاجتماعي فيها قصيدة كتبتها العشائر بالحكمة، لا بالعصبية، وبالتجاور لا بالتصادم.
فكل بيت فيها يُشبه النخلة: جذره في الرمال، ورأسه في العُلا.
ومع كل تحوّلٍ في البلاد، كانت الرحالية تصمد.
حين تُجفف الأنهر، تُنبت من الصبر جدولًا.
وحين تنقطع الكهرباء، تضيءُ بشمعة الوعي.
وحين يُقال إن الريف يتلاشى، تُعلن الرحالية عن ولادة جديدة في كل موسم تمر، في كل وظيفة تُنجز، في كل بيت يُبنى، وفي كل طالبٍ يعود بشهادة علم.
هي ليست "ناحية" في التقسيم الإداري فقط، بل مفردة من مفردات التاريخ العتيق، ومدرسة في الانتماء الصامت.
الرحالية لا تطلب اعترافًا، لأنها مدينة من مدن الصبر الطويل، تعرف نفسها، وتحترم تاريخها، وتمشي في الصحراء بثقة من يعرف أن لا شيء مستحيل على من زرع الجذور بيديه.
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال