د. عبدالله يوسف الهاشمي
ناحية الرحالية: واحة الزمن الضائعة بين أصابع الرمل وسراب الحياة
بواسطة د. عبدالله يوسف الهاشمي, منذ 2 يوم عند 06:21 PM (259 المشاهدات)
في عمق الصحراء الغربية العراقية، وعلى تخوم الجنوب الشرقي لمحافظة الأنبار، تستقر الرحالية كوشاح أخضر نادر في قلب الجفاف، شجرة نخيل وصدى تاريخ تائه بين ذرات الرمال التي لا ترحم. الرحالية، ذلك الاسم الذي يحمل في طياته صورة المدينة التي كانت واحة خصبة تتنفس الحياة بين نسمات الهواء الحار، وتزخر بعيون ماء كانت ينبوع أمل لسكانها، صار اليوم مرآةً لصراع الإنسان مع الطبيعة، ومرآة لحالة إهمال عميقة توالت آثارها على أرضٍ كانت يوماً ما مرفأً للرحل ومهدًا للترابط الاجتماعي العميق.
إنها ليست مجرد ناحية عابرة في خارطة العراق، بل هي جسد حي ينبض بتاريخ وموروث حضاري عميق، محاط بأشجار النخيل التي تكاد تخلق شبه جزيرة خضراء في قلب الصحراء القاحلة، تحرس بين أوراقها قصة شعب وامتداداته القبلية التي توحدت عبر روابط الدم والمصاهرة والتكافل الاجتماعي، حيث لا تقف العلاقات على حدود النسب فقط، بل تتعداه لتصبح شبكة اجتماعية متماسكة، تلتقي فيها القلوب قبل الأجساد، وتنسج قصص الفرح والحزن، وتقاوم وحدتها تحديات الزمن والصحراء معاً.
لكن هذه الواحة، التي كانت تضج بالحياة وأصوات الأطفال وفرحة الموسم الزراعي، تعاني اليوم من مآسي إنسانية ومائية تحاصرها من كل جانب. لقد جفت عيون المياه الطبيعية التي كانت تنبع من أعماق الأرض دون واسطة، تلك العيون التي روّت بساتين النخيل وأسقَت أرواح الناس، وأصبحت مجرد ذكرى تتلاشى مع كل يوم يمر، ليُستبدل هذا العطاء الطبيعي بالاعتماد على الآبار الارتوازية التي استنزفت مياهها مع كثرة الحفر، حتى أصبح الضغط في الأنابيب يكاد ينعدم، مما أجبر المزارعين على نصب مضخات كهربائية تكافح مع التيار الكهربائي الخافت والمتقطع.
هذا الجفاف الذي بات يحاصر الرحالية ليس مجرد أزمة مائية فحسب، بل هو انهيار شامل للبنية الاقتصادية والاجتماعية، إذ تراجع الإنتاج الزراعي بشكل غير مسبوق، وخاصة زراعة النخيل التي كانت تشكل العمود الفقري لاقتصاد الناحية، وسط غياب الدعم الحكومي، وقلة الموارد، وتراجع الخدمات الأساسية كالكهرباء والرعاية الصحية، وغياب الكادر الطبي المؤهل، مما أدى إلى تفاقم أزمة الرفاه الاجتماعي للسكان الذين اعتادوا على عيش حياة كريمة متواصلة مع طبيعة أرضهم.
تُضاف إلى ذلك الكلفة البشرية والصحية، حيث يعتمد السكان اليوم على شراء مياه الشرب من مصادر غير موثوقة، مما يفاقم من انتشار الأمراض وخاصة بين الأطفال، في إشارة واضحة إلى التدهور المتسارع في ظروف الحياة اليومية. ولا يخفى على المتابع أن غياب البنية التحتية الصحية والتعليمية والوظيفية يعمق الأزمة، إذ باتت الناحية تواجه شحاً في الفرص الوظيفية، وقلة في الخدمات الأساسية التي من شأنها أن تحافظ على استقرار الإنسان وكرامته.
الرحالية التي كانت معبرًا للرحل، وأرضاً خصبة لزراعة الحبوب والخضروات المتنوعة، تتعرض اليوم لنكسة تاريخية قاسية، تكشف لنا هشاشة العلاقات بين الإنسان وموارده، وبين الدولة ومواطنيها في مناطق الضعف، حيث تتداخل عوامل الإهمال السياسي والاجتماعي لتضعف روح المجتمع وتفكك وحدته.
ومع هذا الواقع القاسي، تظل الرحالية ترفرف كواحة صامدة تحت وطأة العواصف، تحكي لنا قصة الإنسان العربي الذي يرفض الخضوع، ويرفض أن تُمحى ذاكرته من سجلات التاريخ. إنها حكاية وعي بشري وصراع وجودي على الأرض، حيث التقاليد والعلاقات الاجتماعية تبقى ملاذاً حقيقياً يذوب فيه الألم وينمو الأمل.
إن تجربة الرحالية التي تكشف لنا عن تناقضات هذا العالم، الذي يزخر بالثروات والفرص، لكنها في الوقت نفسه ينسى أصحابه، تطرح سؤالاً وجودياً مهماً عن مسؤولية الدولة والمجتمع في حماية هذه الجواهر الحية، والحفاظ على تماسك المجتمعات الأصيلة التي تُشكل نسيج الهوية الوطنية العميقة، وما إذا كانت هناك إرادة حقيقية للنهوض من جديد، وإعادة الحياة إلى هذه الأرض التي رفضت أن تصبح مجرد ذكرى في صفحات التاريخ.
ختاماً، الرحالية ليست مجرد ناحية أو مدينة صحراوية عابرة، بل هي رمز لنضال الإنسان ضد الفناء، وصورة حية للماضي والحاضر والمستقبل الذي يمكن أن يُبنى على أحجار الترابط الاجتماعي، والتاريخ العريق، والإرادة الصلبة، ليعود هذا المكان كما كان، واحة للخير، وشبه جزيرة للنخيل تُحيي القلب وتنير الروح.