د. عبدالله يوسف الهاشمي
"ولتبْتَغي إليهِ الوَسيـلةَ: بناءُ النفس كطريقٍ لاستئنافِ الحضارة"
بواسطة د. عبدالله يوسف الهاشمي, منذ يوم مضى عند 01:35 PM (227 المشاهدات)
كَتَبَهُ: د. عبدالله يوسف نافع الهاشمي
كلما شعرت أن العالم يضيق، أعود إلى تلك الكلمة: *الوسيلة*. الكلمة التي وردت في كتاب الله مرة واحدة، لكنّها تكفي لتبني بها أمة. ليست "وسيلة" بمفهوم الأدوات، بل وسيلةٌ بمفهوم المقام، بتلك الشرفة العالية التي لا يُصعد إليها بالمصاعد ولا بالألقاب ولا بجوازات الإنجاز، بل يُصعد إليها بالمجاهدة، بالاعتزال عن صخب النفس، وبالعودة الطويلة إلى الداخل. الوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه، لا تعني أن يكون الإنسان جزءًا من حركة ضخمة، بل أن يكون نقطةً دقيقة في شريان المعنى، أن يتحول هو بنفسه إلى رسالة، إلى طُهرٍ متحرك في عالم لوّثته الإعلانات. لا تبحث عنها في المناصب، بل ابحث عنها في تلك اللحظة التي تشعر فيها أن الله معك، ولو خذلك الجميع. هناك فقط تبدأ النهضة، هناك فقط تُبعث الأمة من جديد.
إن الذين يسألون: كيف ننهض؟ كيف نُعيد مجدنا؟ كيف نسترجع لحظتنا الحضارية؟ يغفلون أن المشكلة ليست في غياب المشروع، بل في موت الإنسان الحامل له. المشروع حاضر في القرآن، حاضر في كل تكبيرة، في كل قيامٍ على جوف الليل، لكنه ينتظر النفس التي تتهيأ، تنتظر من يتطهّر له لا بدنه فقط، بل قلبه وسِرّه ومقصده. لذلك حين تكلّم القرآن عن الوسيلة، لم يقل: وابحثوا عن خطط خمسية، ولا: استوردوا نظريات الإدارة، بل قال: *وابتغوا إليه الوسيلة*… فالمسألة ليست هندسة مؤسسات، بل هندسة نفوس. الحضارة الحقة لا تُبنى بأدوات القوة أولًا، بل بقوة المعنى. إنه الدين حين يتجسد في فرد، فيتحول الفرد إلى جسر بين السماء والأرض.
ذلك الفرد الذي لم يعد يشغله كيف يراه الناس، بل كيف ينظر إليه الله. الفرد الذي لا يتسوّل الاعتراف من المؤسسات، بل يُقيم ميزانه عند الله في خلوته، في صمته، في دمعته التي لا يراها سواه. هذا هو الإنسان الرسالي، لا يملك إلا قلبًا مذبوحًا من الشوق إلى الله، لكن ذلك القلب إن صَدق، حمل على ظهره أمة. نحن لا نحتاج إلى كثرةٍ في العدد، بل إلى كثافة في الصدق. الذين غيّروا وجه الأرض لم يكونوا آلافًا، بل أنقياء. الذين أطلقوا شرارة التغيير لم يكونوا يملكون جيوشًا، بل كانوا يملكون قلوبًا تُحسن السجود، وأرواحًا لا تُرائي، وضمائر لا تُهادن. الذين قالوا: "ربنا الله" ثم استقاموا، لم يكونوا رجالًا خارقين، بل رجالًا خائفين، لكنهم خافوا الله وحده، فانكسرت فيهم كل الهيئات الزائفة.
مشكلتنا ليست سياسية فقط، بل هي روحية عميقة. لأنّ السياسة حين لا يقودها المعنى، تصير عبثًا ملوّثًا بالأنانية. والثقافة إذا لم تُسق من نبع الرسالة، تصبح تفاخرًا بالمعلومات لا استنارة بالبصيرة. نحن نعيش في زمن كثُر فيه الوعي وقلّ فيه الورع. زمن نملك فيه أدوات الوصول، لكننا لا نعرف إلى أين نصل. زمن نحمل فيه مصطلحات كبيرة، لكن أرواحنا خاوية من الضوء. لذلك لا بد من ثورة داخلية، لا تُرى في الشاشات، ولا تُصفق لها الجماهير، بل تبدأ في موضعٍ خفي، في جرحٍ صغيرٍ في القلب لا يلتئم إلا بسجدة. وحين يُطهَّر ذلك الجرح، يبدأ كل شيء في التبدّل، تبدأ الكتب في التغيّر، تبدأ الكلمات في التجلّي، وتصبح الحياة كلها مناجاة.
إن أعظم ما فقدناه ليس السلطة ولا الاقتصاد، بل ذلك الإنسان الذي يبيت وجله من الله يغلب وجله من المخابرات، الذي يبكي من خشية التقصير قبل أن يغضب من الواقع، الذي يقيم شرائع الله في قلبه قبل أن يطالب بها في الدستور. لا تطلبوا من الأمم أن تحترمنا ما لم نحترم نحن أنفسنا، لا ترفعوا رايات النهوض ما لم تنهضوا من رقدتكم الداخلية. إن الذي يريد أن يغيّر العالم دون أن يغيّر نفسه، كمن ينفخ في الرماد ويرجو نارًا. نحن لا نحتاج إلى صياغة هوية جديدة، بل إلى بعث الروح في الهوية الأولى، التي قيل عنها: *كنتم خير أمة*. لكنّ هذا الخير مشروط: لا يُعطى بالتاريخ، بل يُمنح بالصلاح، لا يُكتب في كتب التربية الوطنية، بل يُزرع في الخلوات.
نعم، نحتاج إلى تربية جديدة، لا تبني الأجساد بل تبني المقامات. تربية لا تبدأ من السؤال: "ماذا سنُقدّم للأمة؟" بل من السؤال: "من نحن عند الله؟". تربية توقظ الإنسان فيك لا المجاز، تُخرجك من حفلة التكيّف مع العجز، وتُلقي بك في قلب الحقيقة حتى لو جرحتك. تربية تُعيد ترتيب أولوياتك، فتدرك أن النهوض ليس شيئًا خارجيًا، بل قرار داخلي. قرار أن تحمل نفسك إلى المعنى، ولو خسرت كل شيء في الطريق. قرار أن تُخرج من قلبك كل شرك خفي، كل تعلق بشهرة، كل التفاف حول الذات. القرار بأن تعود إلى الله بكلك. وهنالك تبدأ الوسيلة تتجلّى.
حينها، حين يُبعث فيك النور، لا تعود بحاجة إلى حشد الجماهير، يكفيك أن تكون شاهدًا. يكفيك أن تحمل في داخلك من الله ما يكفي لإنارة كل ظلام. هكذا بدأت الرسالة، وهكذا تُستأنف.