د. عبدالله يوسف الهاشمي
ناحيةُ الرّحالية.. الواحة التي أنجبتها الصحراء
بواسطة د. عبدالله يوسف الهاشمي, منذ 2 يوم عند 06:37 PM (319 المشاهدات)
بقلم: د. عبدالله يوسف بيگ الحسني الهاشمي
في عمق الصحراء الغربية للعراق، حيث تمتد الرمال وتضطجع ناحيةُ الرّحالية.. الواحة التي أنجبتها الصحراء تحت صمت الزمان، تنبعث الرحالية كأنها نداء قديم أطلقته الفطرةُ في وجه الفناء، فاستجاب له التاريخ بميلاد واحة. إنها الرّحالية، تلك المدينة التي لم تكن في أول عهدها إلا سرابًا يلاحقه الأمل، ثم غدت واقعًا يسكنه المجد وتروي ظلاله الذاكرة.
من رحم الاضطراب السياسي الذي كان يلف الحجاز في صراع العلويين والعباسيين، خرج الأخوان علي بيك وسليمان بيك، يحملان ما بقي من حطام التاريخ الهاشمي الشريف، قاصدين أرضًا لم تكن يومًا مأهولة إلا بالرياح، وقلوبٍ من الرحّل يتبعون المراعي حيثما مالت لهم السماء. وهناك، غرب بحيرة الرزازة، زرع الشرفاء أوتاد خيمتهم، ثم غرسوا في الرمال عزمًا، وما لبثت الرحالية أن انبثقت من التحدي، كعروس من نور خرجت من جوف الصخر.
الواحة التي لُقّبت بـ الواحة الخضراء، لم تكن خضرتها إلا من عرق السواعد وأناة النخيل. لقد غطت النخيل أرضها، وسقتها العيون التي كانت تتدفق كأنها طهر غابر من جنات التاريخ، عين الزرقاء، عين جفة، وعين البخيتي، وكل واحدة منها تسرد حكاية عصور لم توثقها السجلات الرسمية، ولكن حفرتها الذاكرة الشعبية في صخر القلب.
وكانت الرحالية، رغم تواضعها الظاهري، مرآةً لعراق مصغّر، تتجاور فيه العشائر لا كغرباء، بل كجذور متشابكة لشجرة واحدة، يسكنها السادة البيگات (أحفاد علي بيگ)، والبوسليمان الشاهر (أحفاد سليمان بيگ)، وكان هذان الأخوان (علي بيگ - سليمان بيگ) أول من استوطن الرحالية، كان ذلك نهاية القرن التاسع الهجري، كما يسكنها إلى جنبهم عشائر أخرى وهم: السادة الحروب، والبو جادر العقيليين، والحِجّاج، وآل شديد، وبيوتات أخرى: النعيم، المشاهدة، البوشبل، بيت موسى، بيت دويحس، وغيرهم، فصاغوا مجتمعًا فريدًا لا تصهره العواصف بل تزيده تماسكًا.
وحين تنظر إلى الرحالية اليوم، وقد جف ضرع الزراعة، وتناقصت المياه، وضعفت الكهرباء، فإنك لا تجد فيها مدينة تهرمت، بل تجد روحًا تعاند الموت، تنتقل من الأرض إلى الوظيفة، ومن النخلة إلى الطموح، كأنها تأبى أن تذبل في صمت. إن إنتاجها من التمور، الذي يناهز أربعة عشر ألف طن سنويًا، ليس إلا إرثًا من الوفاء لجذورٍ تأبى أن تموت.
ناحية الرحالية لم تكن حدثًا جغرافيًا فقط، بل كانت وعدًا أخلاقيًا. كانت استجابةً للصبر، وثمرةً من ثمار التحدي. إنها مدينة إن سكت عنها التاريخ الرسمي، فإن الرمال تحفظ صوتها، والنخيل يردد نشيدها، والسماء تعرف اسمها. الرحالية ليست مجرد اسم على الخارطة، إنها نبتٌ خرج من بطن الصحراء، فصار في وجدان أهلها عرشًا من هوية، ومنفى اختار أن يكون موطنًا.